المتدين والإشكالية المذهبية (10 من 11)

لم يبتل المتدين ببلية أعظم وأشد ضررا من بلية الطائفية, فالطائفية حوّلت بعض المتدينين فعلا إلى جنود للشيطان, فباسم الطائفية والانتماء المذهبي تخلى الإنسان المتدين عن إنسانيته وصار همه الأول وشغله الشاغل أن يلحق أكبر الضرر بهذا الآخر المختلف عنه في المذهب. بل وجد أعداء الإسلام, أو لنقل ممن لهم مصلحة في إضعاف الشعوب الإسلامية, أن هذا الاستقطاب المذهبي والشحن الطائفي خير وسيلة لاستدراج الجميع على اختلاف مذاهبهم ومستوياتهم العلمية والثقافية للوقوع في حالة عداء ومخاصمة فيما بينهم, فحتى العلماء والمثقفون من مختلف المذاهب لم يمنعهم علمهم وثقافتهم من الانجرار إلى القضايا التي تؤجج الخلاف الطائفي بين الناس. فهل يعقل أن يجر المتدين إلى عمل أو تبرير ممارسات عنيفة بحجج مذهبية أو طائفية؟ وهل يقبل من المتدين أن يجعل من الخلاف المذهبي العقبة الكأداء في طريق الحفاظ على السلم الاجتماعي, وهل يريد المتدين أن يقبل به المجتمع وهو صار مصدرا للفتنة والخلاف وعدم الاستقرار وإشاعة الفوضى؟ كيف سيستأمنهم المجتمع على نفسه ويوكل إليهم قيادته وتدبير شؤونه وهم يمارسون أقسى صور اللاإنسانية واللاعدالة مع من يختلف معهم في المذهب أو الطائفة؟
الطائفية والممارسات التي أفرزتها استطاعت فعلا أن تشوه صورة المتدين, واستثمرت هذه الصورة المشوهة جهات عديدة لها مصلحة في مناهضة الدين, ليس بالضرورة من منطلق مفهوم المؤامرة, لكن من باب التزاحم. المتدين الطائفي ـ في الحقيقة ـ إنسان بلا مناعة إنسانية ولا مناعة أخلاقية, فهو يكذب باسم الدين, وينتهك حرمة وسمعة الآخرين بدواعي الحفاظ على الدين, بل إنه يبرر لنفسه الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين لأنه يعتقد أنه دائما على حق والآخرين على باطل, فلا بد إذا من تفكيك هذه الإشكالية في ذهن المتدين حتى يستطيع أن يحرر نفسه وفكره من قيود الطائفية. وفيما يلي استعراض موجز لبعض النقاط التي تدخل في إطار مناقشة هذه الإشكالية:
1 ــ إن المذاهب في الأصل انعكاس إلى تعدد الرؤى والاجتهادات في فهم الدين, فالدين أوسع وأكبر من أن يستوعبه تفكير شخص معين أو مجموعة معينة مع الأخذ في الاعتبار تنوع الظروف المكانية والزمانية التي تحيط بتلك المجموعات. والمذاهب هي ناتج طبيعي لتفاعل الإنسان مع الدين, ولعل هذا التفاعل في الأصل مطلوب دينيا, لأن تجربة الإنسان الدينية بقدر ما هي تكامل للإنسان هي أيضا تكامل للدين, لأن الدين نفسه ترك مساحات في دائرته ليشغلها الإنسان بفكره وعمله. هذا الفهم لفكرة المذهب يحصن المتدين من النظر إلى المذاهب على أنها فرق أو جماعات متضادة, وهذا هو ما ابتلي به المتدينون في الماضي والحاضر, فعندما ينظر المتدين إلى المذاهب على أنه أمر طبيعي, بل تلبي حاجة ضرورية لتكامل المسلمين في إطار فهمهم للدين, فإن مثل هذه النظرة ستفتح الباب للتعايش بين المذاهب, بل ستكون هناك مناخات فكرية سليمة للارتقاء بالتفكير في الأمور الدينية, وهذا بدوره يعزز عموم حالة التدين في المجتمع.
2 ــ ليست المشكلة في وجود المذاهب بقدر ما هي الحمولات التي على هذه المذاهب, فالمذاهب وإن كانت شأنا دينيا إلا أنها من جانب آخر ظواهر اجتماعية تتقاطع وتتأثر بما يحويه ذلك المجتمع ويمر به من تحولات سياسية واقتصادية وثقافية وغيرها, فليس كل ما في المذهب بالضرورة أنتجه المذهب نفسه, أو جاء في إطار ما يفهمه أو يراه ذلك المذهب للأمور الدينية. هناك الكثير والكثير مما نعتقد أنه من أصول ذلك المذهب أو مما يدخل في دائرة الأمور الرئيسة المتعلقة بذلك المذهب وهي في حقيقتها إضافات أو ربما زوائد غريبة تكفلت السياسة أو الثقافة التحتية للمجتمع أو أي مصدر من مصادر السلطة في المجتمع على تحميلها للمذهب. وعلى المتدين أن يعي أن مثل هذه الإضافات ربما السبب الرئيس في تباعد المذاهب عن بعضها, وأنها المسؤول الأول عن وجود حالة من التنافر وربما العداء بينها. علينا جميعا أن نعي أن المذهبية والطائفية التي عشنا ونعيش ويلاتها ومآسيها هي نتيجة للتوظيف السياسي لهذه المذاهب, فعندما استدرجت هذه المذاهب ووقعت في شراك السياسة تحولت من ميادين للفكر والاجتهاد الفكري إلى ساحات للعداء والتقاتل باسم حماية الدين والعقيدة. كلما يستطيع المجتمع أن يرتقي بثقافته ويجعل منها الفاعل الأكبر والأقوى في حياته ونشاطه يستطيع هذا المجتمع أن يمنع من تحول هذه المذاهب إلى حالة مذهبية وطائفية, لكن عندما تتراجع الثقافة وتتخلى عن القيم الإنسانية، فإن المذاهب ستجد نفسها أصبحت مطية للآخرين يقودها للسيطرة على المجتمع والفتك به.
3 ــ لقد اعتادت المذاهب أن تتجادل فيما بينها لا أن تتحاور, وشتان بين الجدال والحوار, فالجدال ينطلق بالإنسان من موقع الخصومة للآخر, ومثل هذا يكفي لأن تكون نتيجة الجدال المزيد من العداء والتباعد بين أصحاب المذاهب, وهذا ربما يفسر لنا فشل تلك المحاولات للتقريب بين المذاهب، لأننا في أكثر الأحيان نقترب لنتجادل لا لنتحاور, وبالتالي نخرج من هذه اللقاءات ونحن أكثر شكا وخصومة لبعضنا. والجدال على عكس الحوار يوهم الإنسان بأنه على الحق في كل ما يريد أن يتجادل فيه وغيره على باطل, وأن هدفه من هذا الجدال ليس معرفة الحقيقة, لأنه يعتقد أنه سبق غيره في معرفتها والوصول إليها, وحالة كهذه سرعان ما تنتهي بالمجادلين إلى التصادم والافتراق. أما الحوار يخلق أجواء من الثقة بين الأطراف لأن كل طرف لا يريد أن يحقق نصرا له أو هزيمة للآخر بقدر ما يريد أن يفهم ذلك الآخر، وأن يوسع من دائرة المشتركات التي بينهم, والمحاور يعلم أنه ليس كل الأمور المختلف عليها من اليقينيات, وبالتالي يكون صاحب الرأي الآخر شخصا معاندا أو مكابرا أو منحرفا. والمحاور في العادة على خلاف المجادل تمنعه ثقافته من أن يعمم اختلافه في جانب معين على الجوانب الأخرى, أو أن يجعل من اختلافه مبررا للمساس بالآخرين في مقدساتهم أو الاعتداء عليهم ماديا أو معنويا.
4 ــ يتلون الخطاب المذهبي بلون المرحلة التي يعيشها ذلك المذهب, فعندما تكون الأكثرية لمذهب معين, أو أنه يحظى بدعم لا يتوافر للمذاهب الأخرى, فإن لغة هذا المذهب ستكون لغة القوة وليس لغة المنطق والحوار, والاتكاء على لغة القوة حالة بطبيعتها تنتج ثقافتها وأفكارها الخاصة بها, ومن ثم تعمل على تحميلها للمذهب الذي تدعو إليه, والمذاهب التي تعيش الأقلية هي الأخرى تعيش هاجس الخوف من اعتداء الآخرين على حقوقها فتنتج لنفسها مضادات فكرية وثقافية لتحمي نفسها من هذا الاعتداء الحقيقي أو الموهوم ومع مرور الزمن تتحول هذه المضادات الفكرية والثقافية إلى أمراض في الجسد الفكري والثقافي لذلك المذهب, فكلما استطاع المتدين في كل المذاهب على تغليب لغة المنطق على لغة القوة أو لغة الخوف والتوجس, فإن هذا كفيل بتراجع وانحسار التشنج المذهبي والطائفي في المجتمع. في الختام لا بد من القول إن على المتدينين أن يرشدّوا من خطابهم المذهبي, فليس من المقبول أن نعتمد خطابا مذهبيا يثير الفتنة والكراهية في المجتمع وندعي أننا حماة مجتمعنا, والمطلوب أيضا أن نعقلن من تفاعلنا المذهبي حتى لا نستدرج بين الحين والآخر إلى فتن طائفية ومذهبية يثيرها البعض من الحمقى ومثيري الفتن من كل الأطراف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي