من سيهتم بالأموال المهاجرة؟

قبل نحو عقد من الزمن نجح شابان من رواد الأعمال في نقل سوق تجارية تقع في وسط مدينة الرياض من الخسارة إلى الربح ومن الكساد إلى الانتعاش, وذلك في غضون سنتين من الزمن. وكانت فكرة الشابين ببساطة هي تحويل السوق التجارية بأكملها إلى سوق مخصصة لإحدى الجاليات الوافدة. فبعد دراسة تسويقية وافية للسلوك الاستهلاكي للعمالة الوافدة اختار الشابان تسمية السوق باسم (مانيلا بلازا) وتم تحويل المحال التجارية فيها إلى محال مخصصة لمستلزمات وحاجيات وأطعمة وملبوسات تلك الجالية، بل خصصا موقعا إلكترونيا لأخبار السوق ومسابقاتها التشجيعية وجوائزها الترويجية وأخبار الجالية ومناسباتها المختلفة. ثم قاما بحملة ترويجية ناجحة لاستقطاب العمالة المدربة من المستشفيات والمراكز الصحية للزيارة المجانية المجدولة لهذه السوق.
تذكرت هذه القصة التسويقية المحلية الناجحة عندما قرأت خبراً مفاده أن العمالة الوافدة في السعودية هي ثاني أو ثالث أغنى عمالة في العالم, بحسب ما نشرته صحيفة ''الاقتصادية'' عن ''رويترز''. وفي الحقيقة، فإن هذا الخبر أسعدني كثيرا, فهو مؤشر إيجابي لمناخ العمل لدينا في السعودية ولمدى جاذبيته للعمالة بوجه عام، كما يعكس الفرص الوظيفية الضخمة التي يمكن استغلالها، ويبين مدى توافر الإمكانات المادية للعمالة كعنصر أساس للاستجابة لأي برامج تسويقية منظمة، ولنا أن نتخيل لو كانت العمالة فقيرة كم من السلبيات والإشكالات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي يمكن أن نواجهها من هذا الكم الهائل من الوافدين.
أما الشق الآخر من الخبر، الذي مفاده أن نسبة الذين يستثمرون أموالهم من الأجانب في السعودية هي صفر، فهذا ليس بمستغرب في ظل غياب خطة منظمة لحث العمالة على الإنفاق والاستثمار في الداخل، كما أنه ليس بمستغرب أن تتزايد أرقام تحويلات العمالة كل عام. فمنذ عام 2000 كانت التحويلات الخارجية 40 مليار ريال لتصل بنهاية عام 2008م إلى 78 مليار ريال, ومن المتوقع أن تتجاوز 100 مليار ريال بنهاية هذا عام 2010, هذا بخلاف ما يتم تحويله بالطرق الشخصية والقنوات غير الرسمية. هذه الأموال المهاجرة ليس حلها الحالي هو التخفيض من العمالة الوافدة وإحلالها بالعمالة الوطنية، فهذا يتطلب موازنة حكيمة بين حاجات التنمية والتطوير لبلد نام وفوائد الاستغناء عن العمالة الأجنبية. وفي كل الأحوال سيبقى لكل بلد حاجته الأساسية إلى الخبرة والعمالة الأجنبية في مختلف مستوياتها. فهذه أمريكا, وبحسب تقرير البنك الدولي, تعاني من أن إجمالي تحويلات العمالة الأجنبية بلغ العام الماضي 2009 نحو 341 مليار دولار، لكنها ودول أوروبا يضعون في الوقت ذاته خططا وبرامج متنوعة لمواجهة هذه الظاهرة والحد منها، فعلى سبيل المثال هناك مراكز متخصصة لدراسة السلوك الاستهلاكي لكل جالية من الجاليات الوافدة، تعرف من خلال الدراسات المستمرة ما أفضل الطرق لحثهم على الإنفاق المحلي، وما أنجح الخطط لدمجهم في المجتمع الاستهلاكي الأمريكي؟ وفي الوقت ذاته استثمار خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية والدينية.
وفي الغرب هناك سياسات وآليات متبعة ومطبقة على مختلف مستويات الدولة ومؤسساتها العامة والخاصة المتنوعة تتكامل للحد من هجرة الأموال للخارج فتقام أسواق خاصة للجاليات ومطاعم تخدم مأكولاتهم، وأندية لمزاولة هواياتهم الرياضية والثقافية، ومدارس لتدريس أبنائهم، وفق مناهجهم المعتمدة. وهناك أيضاً تنظم برامج سياحية جذابة تتناسب مع حاجيات الوافدين وثقافتهم. وحين يتسوق الوافد في بعض دول الغرب، فإنه لن يستغرب أن يعرض عليه صاحب المحل التجاري إمكانية شحن السلعة مباشرة إلى بلده الأصل، ولا أظن أن مستثمراً سعودياً سيصل به الفكر التسويقي إلى تقديم هذه الخدمة للوافدين في وقتنا الحالي.
إن ما نحتاج إليه اليوم لمواجهة هذه الهجرة المخيفة للأموال أن ننظر إلى العامل الوافد كزبون لا كبائع أو مقدم خدمة، وأنه عميل لا عامل، والفرق العملي بين النظريتين كبير, وأثرهما مختلف.
وأعتقد أن على وزارة العمل ووزارة التجارة والغرف التجارية مسؤولية كبيرة في تحويل هذا التحدي إلى فرصة, وهذه المشكلة إلى مشروع تجاري واعد. فعلى سبيل المثال لو أن وزارة العمل بالتنسيق مع التجارة والصناعة أحدثت رخصة مهنية للعمالة البسيطة مصنفة إلى ثلاثة مستويات، وكانت اختيارية فكم من المعاهد المتخصصة ستنشأ؟ وكم من الأموال الطائلة ستنفق من الوافدين لتحسين مستواهم المهني, وبالتالي زيادة دخولهم وفرص العمل لديهم؟ وفي جانب آخر لو أن هذه الرخصة المهنية فرضت على الخادمات والمربيات والحاضنات والممرضات كم من الفرص الوظيفية التي ستتوفر؟ وكم من الأموال الطائلة التي ستنفق؟ ثم لو قدر أن جعل تعليم اللغة العربية شرطا لتجديد الإقامة لبعض الوظائف لفتح مجال واسع لإنفاق العمالة، وخلق فرص العمل لأبناء هذا الوطن.
هذه أمثلة عابرة تطبق في الغرب في صور مختلفة, لكنها كفيلة بأن تدفع العمالة إلى الإنفاق النافع والمفيد. وأجزم أن الموضوع لو درس دراسة مستفيضة لخرجنا بأفكار رائدة تحد من هجرة الأموال المحولة للخارج وتسهم بطريقة غير مباشرة في الإبقاء على العمالة الطموحة المتطورة والتخلص من العمالة الرخيصة المكلفة. وأملنا ألا تفوت هذه المبادرة على وزير العمل الجديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي