ما هو شكل التدين المطلوب (11 من 11)

الآن وبعد أن استعرضنا وباختصار بعض من الإشكاليات التي يواجهها المتدين في الوقت الحاضر, فمعرفة المتدين بنفسه وإحاطته بالعوامل التي تتضافر على تشكيل تدينه يجعله أكثر قدرة على ترشيد تدينه وتوجيهه إلى الوجهة التي يريدها الدين لا إلى حيث ما هو يريد. فالمتدين في العادة لا يصل إليه الدين إلا من خلال مرشحات عديدة, ثقافية واجتماعية وتاريخية, فليس للتدين شكل واحد وإذا ما أراد الإنسان المتدين أن يعرف ما عليه من تدين فعليه أن يفحص جيدا الثقافة التي بين يديه وأن يدرس جيدا ما عنده من تاريخ وأن يتعرف بعمق على واقعه الذي يعيش فيه وما يحويه من قيم وعادات وأخلاق, فإن كان هناك من علل ثقافية وأمراض اجتماعية وهيمنة تاريخية فإن التدين الذي يقدم له ويطرح عليه هو تدين مخترق بهذه العلل الثقافية ومثقل بهذه الأمراض الاجتماعية ومحبوس في ذلك الزمن البعيد من التاريخ, ولا يستطيع هذا الإنسان المتدين أن يستعيد تدينه وأن يضعه في الإطار الصحيح من غير أن يمارس نقدا لثقافته ومراجعة لما يأخذ به مجتمعه من عادات وتقاليد ويؤمن به من قيم وأخلاق وممارسات وما يدرسه المجتمع له من تاريخ. وحتى العلاقة مع الآخر ووجود كل هذا التوتر الذي يشوب علاقة المتدين مع الآخرين في الطرف المقابل له فكريا أو حركيا أو مذهبيا مرده أسباب وعوامل تحيط بفهم المتدين للعلاقة مع الآخرين. فالتوجه للآخر من منطلق أن هذا الآخر هو إنسان ضال أو مبتدع أو منحرف أو أنه إنسان متهم في نواياه وإنسانيته هو بحد ذاته يكفي لإيجاد أجواء من الرفض والتشكيك مما يجعل النية في التحرك صوب هذا الآخر هو من أجل هدايته وتعديل انحرافه وبهكذا نية يتحرك الإنسان المتدين من نقطة فوقية تجعل من خطابه إلى الآخرين خطابا استعلائيا وليس خطابا حواريا.
فانطلاقا من هذه الإشكاليات التي ذكرناها والتي لم نذكرها والتي يعيشها المتدين نستطيع أن نذكر البعض من معالم التدين المطلوبة في شخصية المتدين, فمن هذه المعالم التي نرى أهميتها نذكر ما يلي:
1- التمسك بالبعد الإنساني: مما يلاحظ على المتدين أنه قد استدرج بسبب أو بآخر إلى أن يتخلى عن لباس الإنسانية في تدينه, فالتمذهب والطائفية والتوتر مع الآخرين مزقت الكثير من إنسانيته, فأكثر المتدينين هم طائفيون وينظرون إلى الآخرين بعيون مذهبية لا بعيون إنسانية, فما أكثر ما نجد من ظلم وقساوة واعتداء يمارسها المتدين بحق الآخرين المختلفين عنه مذهبيا مما جعل البعض يقرن بين التدين واللا إنسانية لكثرة ما يشاهده من صور لا إنسانية يمارسها المتدين بحق الآخرين, وهل هناك جناية أعظم على الدين من انتزاع إنسانيته. فعلى المتدين أن يحرص على إنسانيته وألا يستدرج ليخرج من هذه الدائرة حتى وإن بدا له أنه الأضعف بالتمسك بها لأن أكثر ما يخل بتدينه هو تخليه عن إنسانيته.
2- الأخذ بمفهوم التعددية: مما يؤخذ على المتدين أنه لا يقبل التنوع والتعدد الفكري والثقافي مما يجعله حبيس نفسه, فالفكر عنده واحد والاجتهاد في الرأي بنظره مدعاة للفتنة والاختلاف عنده مرفوض لأن كل شيء عنده إما حق وإما باطل فعلام الاختلاف؟ والتجديد في فهم الأمور الدينية عنده من الأمور المحرمة لأنه لا يفهم التجديد إلا على أنه إزالة وتغيير وليس تصحيحا وتكاملا. فالتعددية والأخذ بها في بناء الإنسان المتدين لشخصيته بات أمرا ضروريا لأن من دونها لا يمكن أن يكون للإنسان المتدين شخصية قادرة على أن تتفاعل مع الحياة, فالحياة أوسع من أن يستوعبها رأي واحد أو أنها تقف على اجتهاد شخص معين. فما نحتاج إليه اليوم في مجتمعاتنا هو المتدين المنفتح، ولا يمكن للمتدين أن يعيش الانفتاح وهو لا يؤمن بمبدأ التعددية, فطالما يعيش هذا المتدين خوفا من التعددية ظنا منه أن الأخذ بها قد يعني له التخلي عن إيمانه بأحقية ما يعتقده فإن مثل هذا الخوف سيبقي الحواجز التي تعوق من تفاعله مع مجتمعه.
3- ضرورة عدم الإنجرار إلى إيجاد خصومة بين الدين والعلم والسياسة وغيرها. هناك من يتعمد استدراج المتدين للتصادم مع العلم إما بالإيحاء له بأن أساس العلم هو الدفع بالإنسان إلى الاستغناء عن الدين وبالتالي يجد المتدين نفسه مهددا في أساس تدينه وعليه أن يؤسس علاقته بالعلم على أنه المجال الذي يريد بالإنسان أن يخرج من دائرة الدين. وشكل آخر من أشكال الاستدراج هو محاولة المتدينين أنفسهم البحث في مصادرهم الدينية عما يتوافق وينسجم مع ما توصل إليه العلم من حقائق ليؤكدوا لأنفسهم ولغيرهم على شمولية الدين. يجب على المتدين أن يريح نفسه من الدخول في هذه المواجهة الوهمية, فالدين على قسمين, دين مستودع في فطرة الإنسان بما يحويه هذا الإنسان من قدرات وإمكانات جعلت منه سيدا للمخلوقات، وبالتالي فحركة الإنسان في دائرة العلم هو في الحقيقة ممارسة الإنسان لعبوديته لله سبحانه وتعالى، والتدين والعبودية هنا هي عبودية إنسانية بالمطلق يتوجه إليها الإنسان بدافع من فطرته, فممارسة العلم والاشتغال به هو تدين فطري وليس في وجوده من تعارض مع النوع الآخر من التدين وإن أخذ في بعض الأحيان مسارا يوحي بغير ذلك. والتدين المنزل عن طريق الأنبياء والرسل هدفه في الأساس هداية الإنسان لئلا يخرج عما تدعو إليه فطرته, فما يتوصل إليه العلم من حقائق حتى وإن لم تكن موجودة ولم تذكر في مصادره الدينية هي في الحقيقة مكون مهم من حالة التدين والخشية التي تقرب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى. والكلام نفسه ينطبق على السياسة, فالسياسة إذا أردناها بمعناها الأصلي وهو إدارة المجتمع وتوجيهه نحو الصلاح، وهذا الأمر لا يتم إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية, فالسياسة بهذا المعنى يجب أن تكون ميدانا للأكفاء والأحسن عملا حتى تكون هناك البيئة المناسبة لإصلاح المجتمع وإقامة العدل, فالسياسة ساحة إنسانية مشتركة وعلى المتدين أن يتخلى عن فكرة أن له الوصاية على المجتمع لمجرد أنه متدين وصاحب دين أو رسالة سماوية, فالمجتمع الدنيوي في حاجة أولا إلى الإنسان الصالح، والإنسان الصالح قد يخرج من بين المتدينين وهذه نعمة عظيمة وقد يخرج من غيرهم والمهم هو أن المجتمع لا يصلح ولا تقوم له قائمة إلا عندما يديره المصلحون الصالحون.
4- التخفيف من الطائفية والتعلق بالماضي: على المتدين أن يخفف من الأحمال المذهبية في شخصيته لأن مثل هذه الأحمال تجعله يقلص من دائرة تدينه، حيث لا تتسع إلا له ولأمثاله مما يتولد عنده إحساس بأن الآخرين خارج دائرة الدين كما ينظر إليه الآخرون المؤدلجون مذهبيا أنه هو الآخر خارج دائرة الدين ولينتهي الحال بالجميع أنهم خارج دائرة الدين، ويكون بذلك الجميع مستعدا ومعبئا لمحاربة الآخر. على المتدين أن يعي أن المذاهب عموما أنتجتها ظروف فكرية وثقافية وساعدت على ظهورها وإبقائها عوامل سياسية واجتماعية بالدرجة الأولى, فكم وكم من مدارس ومذاهب دينية كانت لها الغلبة في الفكر والتنظير، ولكن خذلتها السياسة ولم يتوافر لها ما يكفي من الدعم من مراكز القوة ليبقيها على السطح فتراجع ظهورها حتى اختفى أثرها وانطمس ذكرها. أما الماضي فحمله ثقيل على الكثير من المتدينين, فالتقديس لكل ما مضى أنتج عند المتدين شخصية مضطربة فلا هو يستطيع أن يبرر ما وقع عند الماضين من ظلم وأخطاء ونزاعات وانتهاكات للحقوق الإنسانية ولا هو قادر على أن يستنكرها لأن في ذلك تعريض لما يؤمن به من قداسة لهذا الماضي. ولكثرة التعلق بالماضي وقف الزمن عند المتدين, فأفضل الأفكار أقدمها وأحسن الآراء أعتقها وخير الرجال من استنسخ في نفسه سمات وعادات من سبقه. فالمتدين اليوم في حاجة إلى أن يخفف من حمله للماضي, فليس بالضرورة أن تكون خلافات السابقين هي خلافاتنا وليس من المنطقي أن نستقيل من زماننا لنعيش في زمان غيرنا وليس من المقبول أن نتجاهل ما يحيط بنا من ظروف لنقبل بآراء واجتهادات هي وليدة ظروف وعوامل ما عادت تحيط بنا أو نتأثر بها. فالدعوة للتخفيف من الأحمال المذهبية والماضوية هي من الأمور المطلوبة بقوة حتى يستطيع المتدين أن يقترب من عصره وأن يعيش هموم زمانه.
هل هذه النقاط الأربع تكفي لشرح ووصف ما يتطلع إليه المجتمع ويرغب أن يراها عند المتدينين؟ الجواب هو بالتأكيد كلا, فهناك أمور أخرى كثيرة, منها أن هناك من يحمل المتدين اللاعقلانية التي تعيشها مجتمعاتنا والتي سمحت للفكر الخرافي أن يعزز من حضوره في ثقافتنا, وهناك من يريد من المتدين أن يوجه بعض اهتمامه لمسألة الحقوق وموضوع الأخلاق لأن هناك سطحية في التعامل مع هذه المسائل المهمة جدا ومثل هذا التعامل هو الذي جعل من بنية مجتمعاتنا بنية ضعيفة حتى صارت من أعجز المجتمعات في الاستفادة من كل ما يقدمه العلم والتقدم المعرفي من فرص استفادت منها المجتمعات الأخرى واستثمرتها حتى المجتمعات التي كانت أكثر تخلفا منا للنهوض بنفسها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي