المجتمع المتدين
تتنوع الحملات التي تتعرض لها المجتمعات الإسلامية والعربية حالها حال الفرد المسلم والعربي, فبعض القنوات الفضائية تكفلت بتفريغ المخزون الأخلاقي لهذه المجتمعات, حتى المناسبات الدينية صارت بفعل هذه المحطات فرصة لمزيد من التحلل والانعتاق من الأخلاق. أما الشركات التجارية, تحت مظلة الانفتاح العالمي وبمساندة شركات الدعاية والإعلان فقد أجمعت على تكبيل مجتمعاتنا بقيم استهلاكية لا عهد لنا بها, فصرنا أسواقا مفتوحة لكل مصانع العالم, فالفقير قد ازداد فقرا والطبقة الوسطى قد أخذت في الانكماش التدريجي بفعل حمى الاستهلاك, حتى الإنسان الخليجي, الذي يفترض أن يكون أحسن حالا من غيره وجد نفسه مكبلا بالديون التي تغذيها شراهة الاستهلاك. كل شيء صار عندنا فرصة للإسراف إما بغير وعي وإما للمباهاة وبدوافع شكلية, حتى عندما نتهادى في المناسبات الشخصية والاجتماعية صرنا نقدح بمن لا يساير الموضة حتى إن كان لا يستطيع وليس في مقدوره أن يدفع لهذه المسايرة للموضة. أما في الجانب الثقافي فالأمر أشد وأعظم, صحيح أننا صرنا مجتمعات متعلمة, لكن صرنا نقرأ عن الجن والحسد والعين والسحر، ولا نقرأ ما يزيدنا ثقافة ومعرفة بأنفسنا وبالمحيط الذي نعيش فيه.
المثقفون عندنا صاروا يلعنون حظهم العاثر لوجودهم بيننا ويلعنوننا كمجتمعات صباحا ومساء لكثرة ما لقوه منا من إهمال ونكران. المثقف وجد نفسه أمام ثلاثة خيارات لا غير, إما أن يهاجر وهو يقسم بألا يعود إلا لتدفن جنازته في وطنه لعل الأجيال القادمة تعيد له شيئا من الكرامة التي افتقدها في حياته, وإما يتحول إلى مثقف تاجر يبيع بضاعته ليعيش بها كريما في الظاهر ذليلا يشعر بالحقارة في داخله, وإما يعلن توبته من الثقافة وما يربطه بها طلبا للأمن والراحة.
كل هذه الأمور على أهميتها نضعها في جانب ليقابلها ما تتعرض له المجتمعات العربية والإسلامية من تشويه في تدينها, فلقد استبيحت هذه المجتمعات باسم الدين حتى من قبل المتدينين أنفسهم. فمن يهتم بالفكر الديني صار همه أن يوظف الدين لنعيش بلا عقل ولا تفكير, أما رجال الدين فبعضهم صار همهم استنساخنا في ذواتهم حتى لا نخرج عن طاعتهم ونخسر رضاهم, فصرنا نستفتيهم في كل شيء يتعلق بحياتنا العامة والخاصة, نشركهم في أحلامنا ونستجدي أقوالهم ونصائحهم من الدخول إلى الحمام إلى كيفية النوم في غرفنا وعلى أسرتنا. أما أهل السياسة فوجدوا في الدين نصيرا لهم في إشعال الفتن وإشغال الناس ببعضهم. وأما أهل المال فما أكثر ما أنفقوا في تشويه الدين, فالمجتمع المشوه في تدينه أسهل من غيره في الاستجابة لمطامع التجار, فكم من الأموال نهبت وسرقت باسم التجارة الحلال, فمن الدجاج الحلال إلى الأسهم الحلال والمضاربات التجارية البعيدة عن الحرام، كلها كانت مسرحا للتجارة بالدين وبثروات المجتمعات المتدينة أكثر مما هو تجارة بالدجاج والأسهم.
أما كيف نعرف أن هذا المجتمع فعلا مجتمع متدين, فهناك كثير من العناصر الواجب وجودها في تركيبة المجتمع المتدين ليحفظ لنفسه التدين الصحيح, وهذه العناصر في حاجة إلى عمل وجهد لإيجادها وإبقائها حية وفاعلة في المجتمع لأن التدين ليس حالة كسل واسترخاء واستجلاب الأشياء بالدعاء فقط, بل إن التدين الصحيح مؤشر لعافية المجتمع وحيويته, فعلينا ألا ننتظر التدين الصحيح من مجتمع عليل وخامل لأن حال التدين من حال المجتمع, فإذا سلم المجتمع سلم تدينه, وإذا اعتل انعكس ذلك على تدينه. ومن هذه العناصر المهمة يمكن أن نذكر بعضها وباختصار:
1 - المجتمع الديني مجتمع أخلاق أكثر مما هو مجتمع فقه: يظن البعض, بل ربما الكثير منا, أن مستوى تدين المجتمع يرتبط بما يأخذ به هذا المجتمع من أمور فقهية, ولهذا أصبح الفقيه أو رجل الدين مرجع المجتمع بلا نزاع, ففي هذا الإطار نرى المجتمع المتدين مهتما غاية الاهتمام بالأمور العبادية وأمور الطهارة والنجاسة البدنية ومقدمات هذه الأمور من طقوس وأشكال تصل إلى أعلى مستوى من التفاصيل, بل إن كثيرا من العلماء من يقضي عمره في تفصيل هذه التفاصيل. وفي المقابل نرى هذا المجتمع المتفقه في أموره العبادية يتساهل إلى حد الإسراف في الأمور الأخلاقية, فهو ينتفض ويتوعد بالويل والثبور والعقاب الدنيوي والأخروي لمن يريد المس بطقوس معينة أو أشكال ربما أخذت صفتها الدينية من عادة اجتماعية ألفها الناس، ولا ترى عليه هذا التأثر وهو يرى ما عليه المجتمع من عدم صدق في التعامل وانتشار الرياء وعدم الشعور بالمسؤولية وغيرها من الأخلاق الفاسدة. المجتمع المتدين مجتمع أخلاقي بالدرجة الأولى, وعندما لا تأخذ الأخلاق مكانها الطبيعي فسيكون عندنا تدين مشوه حتى ولو تعبدنا بالشكل وبالطريقة التي تتعبد بها الملائكة, فالأولى أن يكون المجتمع المتدين مجتمعا متمدنا أخلاقيا أكثر مما هو متمدن فقهيا.
2- التقوى الاجتماعية: المجتمع يتشوه تدينه عندما يجعل التقوى مسألة فردية, فمثلما يحتاج الإنسان المتدين إلى تقوى تحميه من الوقوع في الرذائل, كذلك يحتاج المجتمع إلى تقوى تكون له حصانة ومنعة تحميه من تسرب الرذائل والأخلاق الفاسدة إليه. المجتمع الذي يهتم بتنظيم أموره هو مجتمع تقي لأن اللانظام فوضى, والفوضى مدخل للظلم والرذائل. والمجتمع الذي لا يسمح بانتهاك حرمات الناس والتعدي على حقوقهم مجتمع عنده تقوى, لأن التعدي على حقوق الآخرين منقصة أخلاقية لا يرضاها المجتمع المتدين لنفسه. فإذا كانت التقوى الفردية تحفظ للإنسان الفرد تدينه، فإن التقوى الاجتماعي يحفظ للمجتمع تدينه أيضا. ولعل ما نراه عند الكثير من المجتمعات المتحضرة من قيم وأخلاق عالية جعلت بعضنا في حيرة وتساؤل, هل نحن أم هم من يستحق أن نطلق عليه بالمجتمع المتدين أو الديني, فالفارق بيننا وبينهم هو أن عندهم من التقوى الاجتماعي ما يفوق عندنا بكثير.
3 ـ المجتمع المتدين هو المجتمع الصالح: نحن نعرف أن المجتمع لا يتطور اقتصاديا إلا بمقدار اتساع الطبقة الوسطى, وهكذا المجتمع المتدين لا يرتقي في تدينه إلا بمقدار ما عنده من أناس صالحين. والإنسان المتدين لا يكون صالحا إلا بمقدار ما يقدمه من أعمال نافعة للآخرين في مجتمعه, فكلما كان المجتمع عنده كثرة من الذين يعملون ويجتهدون لخدمة غيرهم ويرون في هذا العمل الذي يسد حاجات المجتمع، وينفعهم هو أصلح الأعمال وأفضلها كان هذا المجتمع هو الأكثر تدينا من غيره. فكم عندنا من المجتمعات التي تظن بنفسها خيرا، وتحسب نفسها أنها خير الأمم وأفضل المجتمعات تدينا، وهي عالة على غيرها في كل حاجاتها, وهذا كله بسبب أنها فقيرة فيما عندها من الصالحين, حتى المتدين منهم تراه يوزن أعماله بمقدار ما سيجنيه من حسنات في الآخرة، ولا يهمه إن انتفع به الناس أو لم ينتفعوا, وهو بذلك لا يفهم حقيقة العمل الصالح ويحرم نفسه من أفضل الأعمال, وهي الأعمال الأكثرها نفعا للآخرين.
4 ـ المجتمع المتدين لا يكون مجتمعا جاهلا إن أكثر ما يشوه تدين المجتمع هو الجهل, فالدين في عقول المجتمع الجاهل سرعان ما يتحول إلى مجموعة من الأساطير والخرافات والأوهام, فالعلم يعقلن من تدين المجتمع ويحصنه من أن ينزلق إلى الإيمان بالأباطيل على أنها حقائق ويقينيات, فالعقل الجاهل أضعف العقول في الدفاع عن نفسه في وجه الخرافات والأوهام. فلا مكان للتدين الصحيح في المجتمع الجاهل, ولا غرابة إذاً من أن نرى المجتمعات التي تعتقد بتدينها وهي جاهلة أنها من أكثر المجتمعات التصاقا بالخرافات وأكثرها إيمانا بالأوهام, لا بل إن الجهل مع التدين قد يدفع المجتمع إلى تقديس مثل هذه الأوهام. فإذا كان العالم مقبلا على عصر العلم والمعرفة، فإن المجتمعات الأكثر علما وأكثرها معرفة هي التي ستكون أكثرها تدينا, وستبقى المجتمعات الجاهلة تدين بالخرافة وتظن أنها هي المتدينة وغيرها في ضلال.
أخيرا, ليس بمقدور أي مجتمع متدين أن يحافظ على تدينه من التشوه وأن يكون لهذه العناصر حضورها الفاعل في بنية المجتمع ما لم يحط بهذا التدين ثقافة مؤسسة على قيم ومبادئ إنسانية تعمل بمثابة الغلاف الجوي الذي يحفظ لهذه العناصر وجودها وبقاءها ويصد ما قد يفد على المجتمع من الخارج من قيم وأخلاق تريد الضرر به. فإذا كانت كلمة الثقافة في اللغة تعني التعديل والتصحيح لما هو معوج من الرؤى والأفكار، فإن المجتمعات المتدينة في حاجة إلى الثقافة لتعدل من فهمها ورؤيتها للدين. تثقيف المجتمع فعلا ارتقاء بالتدين الاجتماعي, لأن التدين ممارسة الإنسان والمجتمع الدين, وأي ممارسة بشرية تتأثر وبشكل كبير بثقافة ذلك الإنسان أو المجتمع, فالمجتمع المتدين لا بد له من أن يكون مجتمعا مثقفا ثقافة حية ومتفاعلة ومتجددة.