مبادرة اللحظة التاريخية .. موقف عراقي حقيقي ودعم وإسناد عربي
على الرغم من استعجال بعض القوى العراقية، للنأي عن المبادرة السعودية؛ لأسباب طائفية خاصة بها، إلا هذه القوى تدرك تماما أن المملكة العربية السعودية، لا غيرها، مؤهل للعب دور إيجابي منزه من الإغراض في العراق، وعن طريق خلق ظروف المصالحة العراقية على قاعدة أن الجميع متساوون، بصرف النظر عن انتماءاتهم الطائفية. فعلى العكس من التأثير السلبي لدول أخرى آثرت طائفة على أخرى لمصالح باتت معروفة للكثيرين، تقدم الرياض بقيادة خادم الحرمين الشريفين أنموذجا جديدا يهدف لتحقيق غرض واحد: المصالحة السياسية الحقيقية بين مكونات الشعب العراقي المختلفة بدلا من وصفات الاقتتال التي يسعى إليها البعض أو وصفات التبعية التي يدفع ثمن لها بعض الكتل السياسية.
وقد تباين الموقف من المبادرة السعودية، فمثلا أبدت القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي حماسا لهذه الفكرة، في حين لم تبدِ الكتل الرئيسة الممثلة للطائفة الشيعية الحماس نفسه، كما أن موقف الأحزاب الكردية بقي غير واضح ربما بسبب مبادرة مسعود البرزاني التي أكد وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أنها تتكامل معها ولا تنفيها. موقف الكتل السياسية من دعوة خادم الحرمين للكتل السياسية العراقية الاجتماع في الرياض تحت مظلة الجامعة العربية لبحث سبل تحقيق حكومة عراقية تأثرت بشكل كبير بمصالح هذه الكتل الطائفية الضيقة، كما لا نخفي أهمية العامل الخارجي في التأثير على كتل رئيسة أخرى، ونشير بالتحديد إلى إيران التي لن ترتاح إن نجحت المبادرة وشكَّل العراقيون حكومة لهم بشكل مختلف عن الرؤية الإيرانية القائمة على تمكين الشيعة وممارسة سياسة الإقصاء الممنهج للعرب السنة في العراق.
لكن الدعوة السعودية كشفت أن العرب وإن اختلفوا بعض الشيء في بعض الملفات، إلا أنهم يعبرون عن ارتياحهم للتدخل السعودي الإيجابي؛ فقد عبرت الجامعة العربية عن ارتياحها وسعادتها لتدخل السعودية، كما رحبت دول الخليج أيضا لأن المبادرة السعودية لا تهدف لنصرة فريق ضد آخر بقدر ما تهدف إلى الحفاظ على وحدة وهوية العراق بشكل يعيد التوازن للإقليم الذي شهد حالة من الانكشاف الاستراتيجي نتيجة لدخول قوى غير عربية (أمريكا وإيران) المنطقة والعبث في الموازين التي كانت سائدة قبل سقوط بغداد في التاسع من نيسان قبل سبعة أعوام.
رفض بعض القوى السياسية في العراق للدعوة لا يعبر عن مصلحة عراقية خالصة بقدر ما يعبر عن تغلغل النفوذ الإيراني ومصالح إيران التي على أسفل سلمها تقع وحدة العراق وهويته، فالعراق ـــ كما هو لبنان ومناطق أخرى ـــ لا يتجاوز مسألة ورقة خدمة لاستراتيجية إيرانية يعرف الجميع إلى أين ترنو.
الرياض بهذه الخطوة إنما تطرح بديلا أمام العراقيين بدلا من الاستمرار في لعبة تشكيل حكومة كان من المفروض أن تكون شرعية منذ وقت طويل، فالعراق ما زال يعاني التشرذم البادي في عدم القدرة على التوافق على تسمية رئيس وزراء عراقي بعد أن أفضت الانتخابات إلى حالة من المراوحة وحالة من الفوضى في الوقت ذاته. فبعد ثمانية أشهر تقريبا من عدم قدرة العراقيين على تشكيل الحكومة التي طال انتظارها، تأتي دعوة المملكة العربية السعودية للأطراف العراقية للتداول دون شروط مسبقة في مستقبل الحكومة العراقية.
وبيَّن الملك عبد الله بن عبد العزيز أن الوقت ما عاد يحتمل أن تستمر العراق، البلد العربي الجار، في لعبة لم تعد تجدي؛ فالعراق ـــ كما يقول الملك عبد الله بن عبد العزيز ـــ على مفترق طرق وهو في حاجة إلى تكاتف العراقيين والصبر على الجراح وإطفاء نيران أحقاد الطائفية.
المبادرة السعودية، إن كتب لها النجاح، ستسهم ليس فقط في جلب الأمن والاستقرار للعراق، بل ولتغيير الكثير من الانطباعات التي تشكلت بعد سقوط نظام البعث في العراق والتي تمحورت حول انقسام في هوية العراق: واحدة باتجاه الشرق والثانية باتجاه العرب والأخيرة باتجاه تقسيم العراق إلى أقاليم. لذلك فإن الدعوة السعودية لا تعبر فقط عن رغبة لتحقيق مصالح السعودية وإنما لخلق توازن داخل النظام العراقي لا يسمح لأي كان بالتفرد بالسلطة ولا يسمح لقوى خارجية أن تختطف العراق ليكون إحدى الأوراق في لعبة استراتيجية واضحة المعالم ولا تعود بالنفع لا للعرب ولا للعراقيين أنفسهم.
الرياض بهذا المعنى تقدم نموذج تدخل إيجابيا مختلفا عما نراه الآن في بغداد. فكان بإمكان السعودية دعم فصيل ضد آخر كما تقوم دول أخرى، وكان بإمكان الرياض تسليح بعض الفصائل، والمساهمة بالتالي في تعميق الجراح وعدم الاستقرار، لكن الرياض آثرت وفضلت تقديم الإطار الذي يعيد العراق للعراقيين، ويعيد العراق ليمارس ذات الدور الذي أسهم في إيجاد التوازن المطلوب في المنطقة.
موقف الدول الغربية هو قريب من موقف الدول العربية التي رحبت بالمبادرة؛ لأن هناك إجماعا على وحدة العراق وعلى ضرورة أن تتمكن القوى العراقية من تشكيل حكومة تنهض بالعراق بدلا من الممارسات التي فتتت العراق وجعلت منه مسرحا ومرتعا لكل من يريد أن يتآمر على القضية العربية. لكن القوى الغربية لم تنجح لغاية الآن في التأثير الإيجابي على المكونات المختلفة للشعب العراقي، وهنا تأتي السعودية لملء فراغ كان موجودا لفترة طويلة ويؤمل أن تتوج الجهود السعودية بالنجاح؛ لما لذلك من نفع لنا جميعا.
التحرك السعودي في الإقليم ليس بجديد ولا يمكن النظر إليه بشكل معزول عن الإطار العام الذي يحكم الاستراتيجية السعودية في المنطقة. فالرياض ترى أن من مصلحتها ألا تحدث قلاقل في أي دولة في الإقليم؛ لذلك تحركت السعودية بنشاط عندما كان هناك حاجة إلى منع اندلاع أزمة في لبنان وأسهمت أيضا في توحيد الصفوف الفلسطينية في اتفاق مكة، غير أن قوى سياسية أخرى بارتباطاتها المعروفة قوضت من الجهد السعودي. وفي الحقيقة سبق تحرك السعودية تحرك عراقي على شكل زيارات قام بها نوري المالكي هدفت لحشد التأييد لعراق موحد ولتشكيل حكومة عراقية. ربما كان على المالكي تفهم حقيقة أن كل من السعودية والأردن على سبيل المثال مع جهد تشكيل الحكومة، وأن الخطر الذي يحيق بالعراق وقياداته السياسية يأتي من الذين يحاولون توظيف الورقة العراقية لما يخدم مصالحهم. بهذا المعنى، اكتسبت زيارة المالكي أهميتها؛ لأنه سمع كلاما في الدول المجاورة كان من المفروض أن تدفعه لإعادة التفكير في انحيازاته الإقليمية.
وفي هذا السياق، علينا أن نشير إلى ضرورة ألا تُترَك السعودية وحدها في القيام بهذه المهمة، فمن مصلحة العرب المساهمة في ذلك، وبالتالي تكتسب الدعوة السعودية الكثير من الصدقية عندما يبادر العرب ويعلنون التأييد القوي لما تقوم به الرياض نيابة عن العرب. أحسن العرب صنعا عندما بادروا في الترحيب بالجهد السعودي الجديد؛ لأنهم في مرحلة الانكشاف الاستراتيجية الكبيرة لا يجدون سوى الرياض للقيادة والريادة في اتخاذ الموقف.
بكلمة، تحاول السعودية التقاط اللحظة التاريخية التي تشكلت أخيرا وتقدم بشكل لا يقبل الشك منبرا للقوى العراقية للحوار دون أن يكون هناك تأثير عليها من أحد، وتقع على عاتق العراقيين وحدهم مسؤولية عدم إضاعة الفرصة التاريخية التي لا تسهم فقط في مساعدة العراقيين على تشكيل حكومة وطنية، بل ونزع فتيل أزمة، خاصة أن المنطقة بشكل عام ستعاني ويلات الانفلات الاستراتيجي في قادم الأيام. ربما من المبكر الحكم على موقف القوى العراقية، لكن إضاعة الفرصة السعودية لن تخدم إلا أعداء استقرار المنطقة، ولن تنفع العراقيين أنفسهم في نهاية المطاف.