حقائق حول انتقادات قرار التورق المنظم والعكســي لمجمع الفقه الاسلامي
شهدت الفترة الأخيرة عديد من الانتقادات من خلال حملة تشويش يشنها البعض على قرارات مجمع الفقه الإسلامي ومنهجيته منذ أن أصدر قراره بشأن التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)، في دورته التاسعة عشرة التي عقدت في دولة الإمارات العربية المتحدة في 2009م، الذي حرم فيه التعامل بالتورق المنظم والعكسي، لما ينطويان عليه من مخالفات شرعية، فمنذ أن صدر هذا القرار بدأ بعض المنتسبين إلى الاقتصاد الإسلامي في انتقاد القرار، والتشكيك في الآلية التي يتخذ بها المجمع قراراته.
وقبل أن ابدأ في تفنيد وتوضيح الحقيقة بشأن الادعاءات التي يرددها البعض حول قرار المجمع بشأن التورق المنظم والعكسي..
أود بيان الآتي بشأن قرارات المجمع ومنهجيته بصفة عامة:
إن مجمع الفقه الإسلامي الدولي مؤسسة فقهية تقوم على الاجتهاد الجماعي في النوازل والقضايا التي تعرض عليه، ويضم مجلسه عددًا كبيرًا من كبار فقهاء الأمة من سائر البلاد الإسلامية، الذين يمثلون الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، إضافة إلى عدد كبير من الخبراء في التخصصات المختلفة: الفقهية والاقتصادية والطبية والأسرية والجنائية، وغيرهم ممن يستعين بهم المجمع في توضيح القضايا التي يتدارسونها.
قد اعتمد المجمع منذ نشأته آلية تتميز بالنزاهة والحيادية والواقعية عند إرادة بحثه ومناقشته القضايا التي يريد بيان حكم الشرع فيها، وخاصة عندما يريد عقد مؤتمره السنوي، وهذه الآلية مؤداها أنه يستطلع آراء العلماء والمختصين في الدول الإسلامية، لمعرفة القضايا التي يتعين بحثها ومناقشتها تبعا لمتطلبات الحياة، ثم تجمع تلك الموضوعات، ويتم الاختيار فيما بينها حسب الأهمية، وبعد ذلك يتم اختيار الباحثين لكل موضوع بناء على المعرفة السابقة بتخصصاتهم النظرية وممارساتهم العملية، على ألا يقل عدد الباحثين في الموضوع الواحد عن خمسة باحثين، مما يعني إتاحة الفرصة لتعدد الآراء التي تثري الموضوع.
إن المجمع أصدر منذ نشأته 185 قرارًا فقهيًّا، عالج فيها عددًا كبيرًا من القضايا التي يحتاج المسلم إلى معرفة حكم الشرع فيها لأهميتها وارتباطها بحياته اليومية، وهي متنوعة بين: تعبدية واقتصادية وطبية وجنائية وأسرية وفكرية ... إلخ.
#2#
أما بخصوص قرار المجمع في موضوع التورق المنظم والتورق العكسي، وآلية اتخاذ القرار في المجمع فقد وجهت إليهما بعض الانتقادات أذكر أهمها:
1 ـــ إن الـ 16 بحثًا التي ارتكزت عليها فتوى التحريم الصادرة من مجمع الفقه الإسلامي تكشف عن إجازة هذا المنتج (التورق) بدلا من تحريمه.
2 ـــ إن المجمع قد توصل إلى قراره بالتحريم بطريقة سريعة، والدليل على ذلك أن أحد البحوث التي قدمت إلى المجمع تم إعداده على عجل، وقدم إلى المؤتمر خلال ساعة واحدة من انعقاد الجلسة، فكيف يستطيع الحاضرون قراءته؟
3 ـــ إنه بعد مراجعة الـ 16 بحثًا تبين أن معظم من كتبوها يقولون: إن التورق جائز شرعًا، وهم لا يقفون ضده.
4 ـــ إنه كان على مجمع الفقه أن يتروى، ويمعن النظر في الموضوع قبل أن يعلن قرارًا جاء معاكسًا للفتوى الصادرة في السابق عن هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
5 ـــ إن فتوى مجمع الفقه الإسلامي في التورق أصبحت مثل قولنا: إن جميع الصكوك محرمة بسبب الأدلة ـــ في إشارة إلى أن المجمع يعمم الحكم بالتحريم دون التفات إلى الفرق بين مؤسسة تلتزم بالشرعية وغيرها.
هذه هي بعض الانتقادات التي وجهت إلى قرار المجمع في التورق المنظم والعكسي، وآلية اتخاذ القرارات، وعلى ذلك نقول:
إن المجمع قد بين في قراره عن التورق: ماهية التورق وحكمه، حيث ذكر أن التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقدًا ـــ بثمن أقل غالبًا ـــ إلى غير من اشتريت منه، بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعا، شرط أن يكون مستوفيا لشروط البيع المقررة شرعا.
أما التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: فهو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (الممول) ترتيب بيعها؛ إما بنفسه وإما بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالبا. والتورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل.
لهذا لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي)؛ وذلك لأن فيهما تواطؤا بين الممول والمستورق صراحة أو ضمنا أو عرفا تحايلا لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة؛ وهو ربا.
توصية لمجمع
ومن هنا فإن المجمع يوصي بالتأكيد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية بتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزاما بالضوابط الشرعية.
تشجيع القرض الحسن لتجنيب المحتاجين اللجوء للتورق وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن، والله أعلم. هذا هو نص قرار المجمع في التورق. وكما هو واضح فإن مجلس المجمع قد بين أن الحكم الشرعي في أصل التورق شرعا هو الإباحة، فهو لم يحرم التورق جملة ولم يحرم أصل التورق وإنما الذي حرمه هو: التورق المنظم والعكسي، وأن المجمع لم يصدر قراره فيهما بالتحريم إلا بعد فقدان المعاملة (التورق المنظم والعكسي) الشروط التي بها تصير حلالاً. ومن ثم فإن المجمع قد راعى عند الحكم بالتحريم توافر الشروط الشرعية في هذه المعاملة شأنه في ذلك حيث قال: إن التورق يكون جائزًا إذا طبق بشكل صحيح.
وبناء على ما تقدم يكون المحرم من التورق هو التورق المنظم والعكسي، وعليه فلا مجال للقول إن المجمع قد حرم التورق، مما يوحي بأنه حرمه جملة وتفصيلاً.
انه منذ أن أراد الله تعالى للمجمع أن يوجد، هيأ لأمانته ورئاسته، إضافة إلى أعضاء مجلسه علماء أجلاء ومختصين، فقد منَّ الله ـــ تعالى ـــ على رئاسة مجلسه بعالمين وشيخين جليلين هما فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد ـــ رحمه الله ـــ ثم خلفه فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد ـــ حفظه الله تعالى ـــ كما تولى إدارة أمانته عالمان جليلان وشيخان فاضلان هما فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة وفضيلة الشيخ الدكتور عبد السلام داود العبادي ـــ حفظهما الله تعالى ـــ ولا يستطيع أحد أن ينكر علم هؤلاء وفضلهم وما يتمتعون به من أمانة علمية وحرص على سلامة المنهجية التي توصل إلى قرار صائب ـــ بإذن الله تعالى.
إنه منذ أن وجد المجمع لم يتعرض أحد بالطعن في قرار من قراراته بهذه الطريقة التي يتم فيها الحديث عن قراره في التورق، ولا أدري لماذا هذا؟
إن جل الانتقادات موجهة إلى الشكل وهو الآلية، ومن ثم يكون القرار صحيحًا لأن عدم اكتمال الشكل لا يؤثر في المضمون.
إنه إذا توافرت شروط البيع الشرعية بعيدًا عن التحايل والصورية صار التورق منضبطا، ومن ثم صار حلالا، وإذا لم تتوافر الشروط صار غير منضبط وغير جائز شرعًا. وهذا هو الفرق بين التورق المنضبط وغيره، لأني لا أعلم فرقًا بين المنضبط وغيره في هذا.
< إن المجمع يؤكد أن أي مخالفة بالتحايل والصورية تعتري التطبيق في المعاملات الإسلامية سوف تؤدي إلى تشويه صورة النظام المالي الإسلامي ومصداقيته، كما يؤكد أن الضمانة الوحيدة لازدهار التعاملات الإسلامية وانتشارها واستمرارها هو عدم مخالفتها لإحكام الشريعة الإسلامية، وأن أي صورية أو تحايل أو استغلال يشوب أي مرحلة من مراحل التعامل فيها لسوف يجعلها عرضة لأن تهوي بها رياح البوار والكساد في مكان سحيق. ولو وقع ذلك ـــ لا سمح الله ـــ فإن الضرر لن يصيب الذين ظلموا خاصة وإنما سوف يعرض النظام المالي الإسلامي برمته لانتكاسة قد تؤثر في تميزه أو تنال من مصداقيته ردحًا من الزمن.
ومع كل ما سبق يسعد المجمع أن يتفضل العلماء والمختصون بإبداء آرائهم حول ما يصدره من قرارات وفتاوى شرعية إذا لاحظوا خطأ فيها أو في المنهجية التي يتبناها بأسلوب علمي يوضح وجهة نظرهم، شريطة الالتزام بضوابط الاجتهاد الشرعي المعتمد على الدليل بعيدًا عن التشهير والتجريح والطعن الذي يفقد العلماء والمؤسسات الفقهية المصداقية لدى العامة .. لا فرق في هذا بين من أفتى ومن شكك .. والله ولي التوفيق.
(ملخص لبيان صادر عن مجمع الفقه الإسلامي)