مشكلة الإسكان.. وخطورة تأخر الزواج
لعل اليوم الكل يتفق على أن موضوع السكن بات يشكل واحدا من أهم التحديات التي نواجهها في الوقت الحاضر؛ فكل الوقائع والأرقام تؤكد أن المواطن اليوم أكثر عجزا من ذي قبل في الحصول على المسكن المناسب له ولعائلته، ووراء ذلك أسباب كثيرة ومتعددة. فالبعض يرى أن نسبة الـ 70 في المائة، وهي التي تمثل الشريحة التي لا تملك مساكن خاصة بها حسب بعض التقديرات، يعني أننا أمام مشكلة قد فشلنا في حلها وتتطلب الآن استراتيجية جديدة وحلولا مغايرة وتلامس جذور المشكلة. وعندما نتحدث عن حاجة المملكة إلى ما يقارب خمسة ملايين وحدة سكنية في العقدين القادمين، فإن الأمر يتطلب من الآن الشروع في إعداد الخطط بشكل علمي ومدروس اقتصاديا وهندسيا لتوفير هذا العدد الكبير من المساكن. وعندما نتحدث عن الفقر وضرورة محاربته فنحن نعلم علم اليقين أن الإخفاق في حل مشكلة الإسكان سيكون له دور كبير في تفاقم مشكلة الفقر مستقبلا؛ فعدم امتلاك الإنسان المسكن قد يكون السبب في إنتاج عائلة فقيرة وليس فقيرا واحدا. وعندما نبدي حرصا مفهوما على ضرورة المحافظة على القدر المطلوب من الأمن الاجتماعي، الذي هو عماد التنمية بأكملها، فإننا نخاطر بمستقبل هذا الأمن عندما لا نعطي مشكلة الإسكان الأولوية التي تستحقها في سلم الأولويات التنموية. فتفاقم مشكلة الإسكان تعني من جانب معين أن مدننا الكبيرة وغيرها ستحوي الكثير من الأحياء العشوائية، وستكون هذه الأحياء مواطن للجريمة وبيئة منتجة للانحراف والسلوكيات المهددة لأمن واستقرار المجتمع. فالأحياء العشوائية والمكتظة بالسكان هي نتيجة طبيعية لتفاقم مشكلة الإسكان.
وفي إطار الحاجة إلى مناقشة موضوع العقار والإسكان من وجهة نظر علمية واقتصادية استضافت كلية العمارة والتخطيط في جامعة الدمام، بالمشاركة مع غرفة التجارة في المنطقة الشرقية، ندوة خصصتها لمناقشة العقار والإسكان في إطار مفهوم الاستدامة. فالإسكان مشكلة عالمية وهناك خبرات وتجارب إقليمية وعالمية في هذا المجال؛ ولهذا تنوعت المشاركات في هذه الندوة، فهناك من ناقش أهمية وضع السياسات المناسبة لمعالجة هذا الموضوع، وهناك من نظر إلى الموضوع من وجهة نظر اقتصادية، فإيجاد أدوات تمويل تساعد الفرد في الحصول على المسكن المناسب هي عند البعض مفتاح الحل لهذه المشكلة المهمة، لكن هذا التمويل عموما في حاجة إلى بيئة قانونية منظمة تحفز وتشجع المؤسسات المالية على الدخول والاستثمار في قطاع الإسكان. أما دور الجامعات وكليات العمارة والهندسة بالخصوص فكان الحديث يدور حول أهمية قيام هذه المؤسسات التعليمية والبحثية في إيجاد تصاميم هندسية لمساكن اقتصادية وصحية وصديقة للبيئة. فقطاع الإسكان هو أكثر القطاعات استهلاكا للمواد الأولية وأكثرها استهلاكا لموارد الطاقة. فالمهندسون مطالبون بتقديم مخططات وتصاميم تستهلك جهدا ومواد بناء أقل وتساعد المستفيد على ترشيد استهلاكه الطاقة الكهربائية.
هناك أفكار كثيرة تناولتها الأوراق العلمية والبحثية التي تضمنها برنامج الندوة وما صاحبها من مناقشات اشترك فيها مسؤولون وأكاديميون ومستثمرون في العقار وقطاع بناء المساكن. في النقاط التالية وقفة سريعة لجملة من هذه الأفكار:
1- لقد كان هناك تأكيد على أن الحصول على المسكن المناسب حق من الحقوق الإنسانية، وبالتالي يجب النظر إلى موضوع الإسكان على أنه قضية تنموية أساسية، وبالتالي يكون التعامل معها في إطار وطني وضمن الخطط التنموية المعتمدة في أطرها الزمنية القصيرة والبعيدة المدى. فمن الخطأ أن نبحث عن حلول لمشكلة الإسكان عند تجار العقار وننسى أن تحويل القطاع السكاني إلى شأن تجاري بحت يفاقم المشكلة ولا يسهم في حلها، وهذا هو الحال في الوقت الحاضر، فتاجر العقار له دور، لكن الأهم هو إيجاد بيئة نظامية وتنموية تساعد الجميع في الحصول على حقهم في السكن المناسب. فحق الإنسان في الحصول على المسكن المناسب له لا يعني أبدا توفيره بالمجان أو على شكل منح مجانية، لكن ما نعنيه إيجاد البيئة العادلة والمقننة والتي تساعد وتيسر لهذا الإنسان مهمة الحصول على المسكن المناسب. فالتسهيل وإيجاد الآليات الاقتصادية والنظامية هو ما يساعد المواطن على اقتناء المسكن المناسب مع وضعه الاقتصادي وحاجاته الأسرية.
2- لعل أهم إشكالية تواجه قطاع الإسكان في المملكة هو تضخم أسعار الأراضي، فمستوى الأسعار في الأغلب الأعم يجعل من الصعب جدا على ذوي الدخل المحدود شراء أرض بهذه الأسعار من دون أن يكبل نفسه ديونا باهظة. هناك ربما أسباب عدة لهذا التضخم أو التورم السرطاني في أسعار الأراضي، لكن السلسلة الطويلة التي تمر بها الأرض حتى تصل إلى المستفيد الحقيقي منها ربما هي السبب الرئيس. فتقصير هذه السلسلة له دور كبير في تخفيض أسعار الأراضي. فهناك أثمان باهظة تدفع لأراضٍ جرداء ولا منافع فيها ولا خدمات، ومن ثم تدخل هذه الأرض في سلسلة طويلة من المتاجرة والمضاربة بين أطراف غير محتاجة لها وتنظر إلى هذه الأرض على أنها سلعة للمضاربة ولا يهم كم تطول مدة هذه المضاربة؛ ما يضاعف من سعرها مرات عديدة ولا تصل إلى الإنسان المحتاج الحقيقي إليها إلا وقد وصل سعرها إلى السماء. فكيف لنا أن نساعد المواطن في الحصول على المسكن المناسب له وهو عليه أن يدفع كل هذه المبالغ الكبيرة ثمنا لهذه المضاربات. الحل ربما في تخصيص الأراضي السكنية وتحديدها، ومن ثم الاتفاق مع مؤسسات مالية مثل البنوك وغيرها للاستثمار في إيجاد البنية التحتية لها، ومن ثم توفير هذه الأراضي لعموم المواطنين على أن يستوفى منهم وبالإقساط وبهامش ربح معقول ما استثمر من أموال في هذه المخططات السكنية. فإخراج المخططات السكنية من تجارة المضاربة سيسهم كثيرا في حل مشكلة المساكن، وهذا ما هو معمول في كثير من الدول المتقدمة وغيرها.
3- التنمية العمرانية بقدر ما هي مهمة لتوفير المساكن بقدر ما لها من تبعات بيئية وصحية على الإنسان، فالمساكن لها النصيب الأكبر في استهلاك المواد الأولية من مواد بناء وغيرها، وهي صناعة تنتج كثيرا من المخلفات التي تضر بالبيئة والإنسان. والمساكن في بنائها وتشغيلها تستهلك ما يقارب من نصف الطاقة الكهربائية المنتجة، ونحن نعلم كم هي الأموال الضخمة التي تستثمر في قطاع الكهرباء وكم لهذا القطاع من دور في إيجاد المشاكل البيئية من انحباس حراري وغيرها، وبالتالي فنحن في حاجة إلى مساكن رشيقة في استهلاكها مواد البناء ولا يحتاج تشغيلها واستخدامها إلى الكثير من الطاقة الكهربائية ولا تنتج لنا كثيرا من المخلفات الضارة بيئيا.
4- تمكين المواطن في الحصول على المسكن المناسب قضية في غاية الأهمية، فالتمكين في حاجة إلى طرق تمويل منظمة وعملية. فبناء المسكن بقدر ما هو مشروع اجتماعي وإنساني هو أيضا مشروع اقتصادي وليس بمقدور كل أحد أن يعتمد فيه على نفسه؛ لأن هذا سيعني الانتظار سنوات طويلة حتى يمكن له التوفير لتحقيق هذا الأمر. لكن المؤسسات المالية الممولة تحتاج إلى بيئة ضامنة لما تقدمه من قروض طويلة الأجل، وبالتالي فن إيجاد هذا النوع من المؤسسات مهم في التعامل مع مشكلة المساكن.
5- هناك نقطة مهمة، وهي إيجاد نماذج سكنية اقتصادية وصحية، فالمسكن الاقتصادي والصحي بات اليوم مطلبا ضروريا؛ فالمسكن هو بيئة يعيش فيها الإنسان وليس مجرد مكان يؤوي إليه وبالتالي فمن الضروري أن تكون هذه البيئة مسالمة وصحية، وذلك من خلال انتقاء مواد البناء المستخدمة. والمسكن الصغير في حجمه ومساحته لا يعني أنه غير مريح إذا ما كان هناك تصميم هندسي ينسجم وحاجات الإنسان الحقيقية.
أخيرا، كان هناك في الندوة من أشار إلى علاقة الإسكان بموضوع الزواج، فمشكلة الإسكان لها دور كبير في تأخير الزواج، ونحن نعلم كم لهذا التأخير من تبعات نفسية واجتماعية قد تصل إلى مستوى خطير. وفي إطار هذه العلاقة بين الزواج والمسكن هناك من يرى أن الأجواء باتت مهيئة لظهور زواج جديد على السطح على غرار ما ظهر من أشكال جديدة من أمثال زواج المسيار والمصياف والمحرم وغيرها، فربما نحن على وشك أن يكون عندنا زواج المسكن، وهو زواج تكون فيه الزوجة هي المسؤولة عن توفير المسكن، فعندها تكون الزوجة هي السكن النفسي والعاطفي للزوج، وعندها أيضا الفيلا أو الشقة.