جورج بوش يبرر الفشل بكثير من الجرأة

يرى الكثير من السياسيين والباحثين أنه يمكن اختزال تركة الرئيس جورج بوش بالحرب على العراق التي يكاد يجمع عليها غالبية المراقبين بأنها كانت حرب خاسرة، من هنا جاءت مذكرات الرئيس جورج بوش كمحاولة منه لإعادة صياغة تركته السياسية التي يصعب بالفعل الإشارة إلى نجاحات كبيرة، وخاصة في السياسة الخارجية ناهيك عن انهيار الوضع الاقتصادي في زمنه.
"نقاط القرار"، كان ذلك هو العنوان الذي اختاره الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لمذكراته التي صدرت للتو. المذكرات بمجملها جاءت لتلقي الضوء على عديد من القرارات الرئيسة (14 قرارا) التي اتخذها الرئيس بوش. فهو ما زال يعتقد أنه بإمكانه تزيين بعض من قراراته، لذلك يقول إن التاريخ وحده كفيل بالحكم على قراراته والسياسات والآليات التي اختارها والتي تركها خلفه، لكنه يقول إن أحدا لا يمكن أن يختلف مع حقيقة واحدة: فبعد كابوس 11 أيلول (سبتمبر)، فإن أمريكا عاشت مدة سبع سنوات ونصف السنة دون أن يتمكن الإرهابيون من القيام بتنفيذ ولو عملية واحدة على الأرض الأمريكية. ويضيف بأنه إذا ما قدر له تلخيص الإنجاز المهم فسيكون هو قدرته على منع الإرهابيين من تنفيذ عمليات إرهابية ناجحة على أرض الولايات المتحدة.
ربما لهذا السبب بالتحديد لم يعتذر الرئيس عن حقيقة أنه شخصيا قام بإصدار أوامر لتعذيب عدد من أعضاء تنظيم القاعدة، وهم عدد من الأعضاء التي كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تعتقد أن بحوزتهم معلومات مهمة عن خطط هجمات إرهابية. وفي معرض استعراضه لهذه الجهود يشير الرئيس إلى أن الوسائل المحسنة في التحقيق (والتي أثارت ضجة كبيرة في حينها) كانت هي خلف الحصول على معلومات مكنت أمريكا من إحباط ما كان يخطط له من أعمال إرهابية، هذا في حين أن هناك عديدا من التقارير آنذاك اختلفت مع مقولات الرئيس بوش ومع ذلك يصر الرئيس على موقفه كما جاء على صفحات الكتاب.
في كتابه لم يقدم الرئيس ما يشير إلى أنه يعتذر عن حرب كانت تستند على أكاذيب بخصوص إخفاء النظام العراقي لأسلحة دمار شامل، فكل ما يقول إنه يتألم من حقيقة بأنه وبقية الأمريكان كانوا عرضة للتضليل بخصوص مساعي الرئيس العراقي صدام حسين لامتلاك أسلحة دمار شامل، ومع ذلك يصر على موقفه - نعرف منذ زمن - عندما يقول إن العالم وأمريكا هما الآن في أفضل حال دون الديكتاتور العراقي، لكنه لا يشير بأن الثمن كان باهظا وأن موازين القوى الآن في منطقة الخليج مختلة بسبب الطيش الأمريكي في العراق، ولا يقول كيف يمكن استعادة التوازن وخاصة مع الاستقواء الكبير الذي يقود الموقف الإيراني بخصوص الملف النووي.
في الكتاب يعبر الرئيس السابق عن ندمه على عدم الانتباه للتدهور الأمني بعد انهيار النظام العراقي في نيسان (أبريل) من عام 2003، وبالتالي جاء القرار بتخفيض عدد القوات الأمريكية في العراق بسرعة وهو الفشل الأهم في تنفيذ الحرب على العراق، وأنه ما زال يشعر بالألم كل مرة يتذكر فيها الفشل في إيجاد أسلحة الدمار الشامل في العراق، ومع ذلك يصر على أن قراره في إزالة نظام صدام كان القرار الصحيح، لكنه وفي معرض بنائه لحالة الحرب على العراق يتجاهل الرئيس في مذكراته موقف الكثير من النقاد الذين اتهموا صقور إدارته بالانتقاء من بين المعلومات الاستخبارية في سياق التحضير للحرب على العراق، كما اتهمه البعض بأنه تجاهل الكثير من النصائح من قبل الجيش ومن قبل وزارة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بمستوى القوات والتخطيط لما بعد الحرب.
وعلى نحو لافت، لم تتطرق المذكرات لقرار تركيز الجهد الأمريكي عسكريا على الساحة العراقية بدلا من المسرح الأفغاني الذي كان بالفعل عنوان الحرب على الإرهاب، ولم يتطرق لأثر قراره بتجاهل الساحة الأفغانية على إحياء قوات طالبان في أفغانستان، وبدلا من ذلك فقد جادل بوش بأن الفشل في أفغانستان كان فقط في نطاق الجهود متعددة الأطراف لبناء الدولة وإعادة إعمار أفغانستان وهي جهود نالت مديح المجتمع الدولي على حد تعبيره.
المذكرات تحتوي على اعترافات بل لنقل مكاشفات مهمة نذكر منها ما يلي: لنأخذ على سبيل المثال اعترافه ببطء فهم الظاهرة، وهنا نشير إلى إعصار كترينا وما نتج عنه من كوارث حلت بقسم من الشعب الأمريكي واتهمت إدارة الرئيس بوش بالتقصير، ويقول بوش بهذا الصدد إنه كان عليه أن يدرك بالتقصير بوقت أبكر وأنه كان عليه التدخل بشكل أسرع مما تم. ويعترف أيضا بأنه كان عليه أن يتدخل بشكل أسرع وأكثر حسما وهجومية عندما تدهورت الأوضاع الأمنية بعد زوال نظام الرئيس صدام. لذلك جاء قراره بتخفيض عدد القوات بعد أن اعتقد أنه حقق نصرا كبيرا في العراق وهو ما اعتبر الخطأ الجسيم الذي دفعت أمريكا لقاءه ثمنا باهظا في المعدات والأرواح، ومهد للإعلان عن فشل الاستراتيجية الأمريكية لسنوات.
وأكثر من ذلك يعترف بأنه عانى مشكلة ما سماه blindside، أي عدم القدرة على الرؤية نتيجة وقوع الأشياء في الخلف، ويقول إنه لم يكن يستطيع أن يرى في أكثر من مناسبة أثناء ولايته الحكم. فمثلا، فيما يتعلق بسجن أبي غريب، يقول إنه لم يكن لديه أي معلومة أو فكرة عن كيف كانت ستكون الصورة للسجناء، وإن أول صورة رآها كانت على محطات التلفزة! كما يقول إنه أثناء أزمة الائتمان كان يفترض أن أي مشكلة رئيسة بقضايا تتعلق بالائتمان كان يجب أن يشار إليها مسبقا من قبل الذين وضعوا اللوائح أو وكالات الإقراض. هنا يشير بوش بوضوح إلى أنه عانى مشكلة عدم القدرة على رؤية الأشياء بسبب الفريق المحيط به والذي كان يعبئه بالمعلومات ومعانيها.
اعتراف آخر يتعلق بالموقف من وزير دفاعه الإشكالي والمتغطرس دونالد رامسفيلد. وبهذا الصدد يقول إنه كان يخطط لتغييره من منصبه كجزء من طاقم أمني جديد في عام 2006 لكنه لم يكن ليجد بديلا له، وقبل ذلك رفض تغييره لأن عددا من الجنرالات المتقاعدين تململوا منه وانتقدوه بالعلن، وما كان يريد أن يبدو الأمر وكأنه انقلاب، لكنه في نهاية المطاف وجد بديلا له بعد أن نصحه أحد أصدقائه من أيام المدرسة والذي كان يعمل مستشارا للرئيس بأن الشخص المناسب هو روبرت جيتس. ويبدو الرئيس وكأنه مشدوه لعدم تفكيره بروبرت جيتس بنفسه! كما يعترف بأنه كان يفكر بعدم ضم ديك تشيني نائبا له في انتخابات عام 2004 وكانت الفكرة بناء على طلب من تشيني نفسه وكان التفكير باتجاه اختيار رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ بيل فيرست وهو اقتراح قدمه تشيني نفسه لكن بوش رفض الفكرة في نهاية الأمر.
في المذكرات، يطلعنا الرئيس بوش عن لقاءاته مع عدد من القادة، وهنا على سبيل المثال نشير إلى وصف ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز شارون بالخنزير، ويشير إلى أن الوصف جاء أثناء زيارة لولي العهد للرئيس بوش في مزرعته في دلاس في وقت شدد فيه شارون الحصار على الرئيس ياسر عرفات. وسأل الأمير عبد الله بوش: "متى سيغادر الخنزير رام الله؟"، وهنا يشير بوش إلى العلاقات السعودية ـ الأمريكية التي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وهنا يرى بوش أن الأمير عبد الله كان يظهر في ذلك الوقت قوة قيادة من طراز فريد وكان حضر القمة العربية في بيروت والتي قادت فيها السعودية قرار المبادرة العربية للسلام. ويشير بوش إلى أن الزيارة جاءت في وقت وضعت فيه مبادرة السلام العربية على الرف نتيجة لسياسات شارون، وعبر عن ذلك ولي العهد السعودي وكان غاضبا بسبب عدم قيام أمريكا بأي دور إيجابي.
كان لبوش رأي في النظام الإيراني بأنه نظام طاغية ولا يفيد الحوار معه إطلاقا، لذلك طلب من مستشاريه بحث مشروع توجيه ضربة عسكرية لإيران. هنا انقسم المستشارون، فمنهم من رأى أن ضربة عسكرية تساعد المعارضة الإيرانية، وهناك من رأى أن ضربة كهذه يمكن لها إذكاء روح الوطنية عند الإيرانيين. في نهاية الأمر كان أمام بوش خيار؛ إما فتح قنوات حوار مباشرة مع إيران أو الانضمام للاتحاد الأوروبي في فرض العقوبات على النظام الإيراني. يكشف الرئيس السابق عن حقيقة كنا جميعا نعرفها وهي أن الخيار العسكري كان دائما خيارا مطروحا على الطاولة وأنه لم يكن ليطرحه جانبا لاعتبارات عديدة، لكنه يوضح أن توني بلير كان يؤيد قرارا عسكريا ضد إيران. ويرى الرئيس أن توني بلير كان صديقا وحليفا موثوقا به على عكس المستشار الألماني شرودر الذي انقلب عليه أثناء الحرب على العراق وبالتالي لم يتمكن الرئيس بوش من استعادة العلاقات معه. ويؤكد بوش أن المستشار الألماني كان متفقا مع سياسة بوش تجاه العراق إلا أنه لجأ لتغيير موقفه حتى يعاد انتخابه في ألمانيا. فبنظر بوش الذي كان يقيم وزنا كبيرا للدبلوماسية الشخصية فإن شرودر كان قد نكث العهد وانتهك الثقة مما انعكس على طبيعة العلاقة بينهما. بدوره كذّب المستشار الألماني السابق شرودر ما ورد في مذكرات بوش واصفا بأنها غير صحيحة على الإطلاق لأنها خارج سياقها الصحيح، وهنا يشير شرودر بأنه كان قد وافق على تأييد بلاده للولايات المتحدة إذا ثبت أن هناك علاقة بين هجمات 11 أيلول (سبتمبر) والعراق، وأنه لم يغير موقفه بسبب الانتخابات الألمانية. ويقول إن موقف بلاده كان في غاية الوضوح بعد أن ثبت لألمانيا أن العلاقة بين العراق والقاعدة كانت محض تلفيق واختلاق وبالتالي كان موقف ألمانيا واضحا منذ عام 2002. وقصة العلاقة مع شرودر وشيراك الفرنسي تنم عن بنية ذهنية لدى الرئيس بوش ترى الأمور من منظور أسود وأبيض، بمعنى أن من هو ليس في صف بوش هو ليس معه وبالتالي لا يمكن إقامة علاقات معه وهو ما قاد تصور الرئيس السابق لكثير من علاقاته مع رؤساء الدول.
في النهاية يقول الرئيس السابق إنه غادر البيت الأبيض مقتنعا بما قدم وأنه كان دائما يقوم بما أعتقد أنه صحيح. وبعد ذلك فقد استقر بحياة عادية يرافق كلبه في الصباح في دلاس ويقول إن كلبه ذات يوم قام بعملية إخراج في حديقة الجيران مما دفعه إلى استعمال كيس بلاستيك لتنظيف مكان إخراج كلبه الذي يسميه بارني! ويمكن القول إن بوش - كرئيس للولايات المتحدة - لم يكن معروفا عنه بأنه ذاك الشخص الذي يعترف بأخطائه، لكنه في هذا الكتاب يكتب أحيانا بوضوح وبشكل مباشر عن مناطق القصور لديه، كما يتناول ما يراه إنجازات تاريخية في إصلاح التعليم وتقديم العلاج لإنقاذ الكثيرين في إفريقيا من خطر أمراض الإيدز والملاريا، كما يركز كثيرا على أنه تمكن من حماية بلده من كارثة إرهابية أخرى بعد 11 أيلول (سبتمبر).

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي