هل هي الأيام الأخيرة للسودان الموحد؟
تشير كل الأدلة إلى أن السودان سيبدأ رحلة التمزق فالجهود الغربية التي تواصلت لعشرات السنين بدأت تؤتي ثمارها. ولقد تمثلت هذه الجهود في حملات إعلامية مستمرة لتقويض مصداقية الشماليين وتغيير اتجاهات الجنوبيين بما يجعلهم يفكرون في الانفصال، وتمثلت كذلك في جهود بلا هوادة لإثارة القلاقل وتهييج القبائل وتسليح المتمردين في دارفور وجنوب كردفان وبطبيعة الحال في الجنوب. استقطبت الولايات المتحدة زعماء الدينكا والنوير والشلك إلى أن يأتي اليوم الموعود لإعلان الانفصال. ومنذ الحِقبة الاستعمارية البغيضة كانت كلمة "استقلال" تعني الحلم والحرية والكرامة، ودأب الإعلام الغربي على تكريس فكرة الاحتلال الشمالي للجنوب، واستثمار أوضاع الجنوبيين التي ترزح في الفقر لإقناعهم بأن خلاصهم يأتي بالتخلص من الشماليين.
وباعتباري ممن عاشوا في السودان ستة أعوام، سبقتها زيارات قصيرة متعددة، فقد رأيت السودان على طبيعته، فالجنوبيون يملأون الخرطوم ومدني وكوستي وكسلا بل وفي الشمال حيث عطبرة والدامر وهم يعيشون في وئام وسلام لا يكدره إلا ما يتم ترديده في الكنائس حول الاضطهاد، وهي أفكار تم إعدادها بعناية في مصانع الدعاية الأمريكية. ولكي نستوعب ما يجري علينا أن نتذكر أن الحرب الأهلية اشتعلت في الجنوب منذ الاستقلال عام 1956، وأن نتنبه إلى أن التوزيع السكاني مؤهل لصراعات داخلية قبلية كتلك التي وقعت بين الشلك والنوير، وتحت مظلة الاستعلاء التي فرضتها الدينكا ، التي تعتبر نفسها سيدة الجنوب، ولذلك كانت الحملات التأديبية التي أنزلها بها الشمال سببا في تعميق الكراهية وتكريس النزعة الانفصالية.
أما الآن فإن الحرب حرب نفط، وصراع عالمي على استخراجه والاستيلاء عليه، الصين بادرت وهي الآن تشتري نصف إنتاج النفط السوداني والولايات المتحدة التي لا تطيق أن يقترب أحد غيرها من مصادر الطاقة دخلت بثقلها ولا نبالغ إذا قلنا إن كل عمليات تسريع الانفصال تتم بجهود أمريكية.. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة تريد البحر الأحمر ممرا آمنا لها ولإسرائيل، ولا تريد على حدوده إلا دولا منهكة ضعيفة تفتقر إلى أية قدرة على التأثير، فصنعت إريتريا وحطمت الصومال واحتوت إثيوبيا، هذا غير إخراجها لمصر من قواعد اللعبة، وهي الآن بصدد تدمير السودان لتحقيق الغاية الاستراتيجية ذاتها، وهي شرذمة الدول المطلة على البحر الأحمر.
كانت الاختلافات قبل ظهور النفط مجرد مشاكل عرقية وصدامات تولدها الخلافات الثقافية والعقائدية والفروق التعليمية والفرص الاقتصادية. أما بعد النفط، الذي يمثل 95 في المائة من عائد صادرات البلاد ، الذي تُقدر احتياطياته بخمسة مليارات برميل يوجد معظمها في الجنوب رغم وجود معامل التكرير في الشمال (الخرطوم وبورسودان )، فإن الحرب اتخذت منحنى أكثر ضراوة فالنفط يمثل 98 في المائة من دخل حكومة الجنوب و65 في المائة من دخل الشمال. وينفق الطرفان مبالغ طائلة على التسلح خاصة الشمال، لأن تسليح الجنوب يجرى عبر ممرات أمريكية في أوغندا والكونجو، لأن واشنطن تتوقع أنه في حالة عدم الانفصال عبر الاستفتاء، فإن الحرب واقعة وتأمل أمريكا هزيمة البشير عسكريا بعدما فشلت جهودها في تقويضه عبر المحكمة الجنائية الدولية عندما ثبت أن واشنطن غارقة لأذنيها في تشجيع المذابح والقتل الجماعي عبر تسليح الجماعات المناوئة للبشير.
وتبرز عدة تساؤلات على غرار:
هل سيُسمح للمواطنين الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال بالاستفتاء؟ ومن من مواطني منطقة "أبيي" التي تقع بين الشمال والجنوب سيُسمح له بالاستفتاء؟
وإذا تذكرنا أن السودان وطن هادئ يعيش فيه كثير من الجنوبيين في الشمال، بل واستقروا إلى درجة يصعب معها انتقالهم إلى الجنوب مما يجعل انتقالهم كارثة تشبه انتقال البنجاليين والبنجابيين المسلمين من الهند إلى باكستان وانتقال الهندوس والسيخ إلى الهند – حيث عانى هؤلاء الفرقاء عذابا ما زال يرافقهم إلى يومنا هذا.
ويقول المراقبون إن الانفصال واقع لا محالة، فالحسابات التاريخية والجهود الدعائية وحالة الاحتقان صنعت المناخ المواتي لذلك، وتخويف الشمال يعزز فرص الجموح الجنوبي. ولا يود الشمال فتح معركة جديدة، لذلك فهو يمارس الصبر والصمت لحين ظهور أفعال الجنوب.
وإذا تابعنا ما يُكتب عن مصير السودان في الصحافة الغربية، سنلاحظ حالة من الترقب النشط لانفصال وشيك ونقرأ عن أن السودان أصبح ممرا لتهريب الأسلحة لحماس وحزب الله، وأن إيران دخلت كلاعب رئيس لتساعد نظام الرئيس عمر البشير على البقاء، ولكن أبرز ما يلفت النظر هو دخول لاعبين جدد لا هم لهم إلا الحصول على أرباح النفط ليس لهم اهتمامات عقائدية أو جغرافية أو ثقافية، ولكنهم يريدون كعكة النفط. كما تثير الصحافة الأمريكية وتوابعها المستعربة مسألة مثلث حلايب وانسحاب السودان من منظمة دول حوض النيل مما أضعف موقف مصر نظرا لأن السودان كان حليفها الأول في المطالبة بحصة كافية من المياه. كما تتحدث هذه الصحف نفسها عن محاولة اغتيال مبارك. وكلها أدلة على أن المطلوب هو تعميق الإسفين الذي تدقه قوى تشجيع الانفصال لقتل أي تعاطف مصري مع الخرطوم. ورغم أن مصر أعلنت تأييدها للجنوب، إلا أنه من المستحيل تصديق فكرة قبول القاهرة لتقسيم أي دولة عربية.
وهناك ملفات جديرة بالتأمل، أولها ملف الجامعة العربية التي لا تحرك ساكنا إزاء ما يجري في السودان العضو العربي المهدد. وعليها أن تبحث لنفسها عن مدخل يتجنب المذابح الدموية التي ستقع إذا اندلع القتال بين الشمال والجنوب – بل وبين قبائل الجنوب بعضها بعضا. والملف الثاني هو إسرائيل التي تعلن على الملأ أنها حصلت على وعود من جوبا (عاصمة الجنوب) بإنشاء علاقات دبلوماسية، ولذلك فهي تستعجل الانفصال. والملف الثالث هو أوباما الذي عين مبعوثا خاصا له في السودان مع حديث مُطول عن أهمية الحوار والواقعية، وإن كانت كل الشواهد تؤكد انحياز واشنطن للانفصال، وقد أعدت الثمن بالفعل إذا رضي السودان الشمالي وقبل فكرة الدولة الأخرى. والثمن يتمثل في تقديم المعونة الاقتصادية للسودان وإيقاف العقوبات الدولية ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، إذا ما قبلت الخرطوم نتائج الاستفتاء الذي تعلم واشنطن أنها تعني الانفصال.
المحزن في هذه القصة المأساوية أن مليوني سوداني قد ماتوا، وأن أربعة ملايين هاجروا من مواطنهم ويهيمون في أرجاء العالم مهاجرين بؤساء، لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا لنجدتهم كما فعل مع شعوب أخرى، ويظل الحال على ما هو عليه، حركة دائبة من أجل النفط والأموال، ولا عزاء لأحد.