إحياء الأرض الموات بين الفقه والواقع (2 من 2)
نواصل اليوم الحديث في هذه الحلقة عن موضوع مقالنا الذي نشر في الأسبوع الماضي بعنوان (إحياء الأرض الموات بين الفقه والواقع)، ونبدأ الحديث عن أنه يجوز للإمام شرعا تقييد المطلق ومنح المباح لمصلحة عامة.
إن التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة سواء في أصل الملكية أو في منع المباح إذا أدى استعماله إلى ضرر عام ومن هنا يحق لولي الأمر العادل أن يفرض قيودا في الملكية فيحددها بمقدار معين أو ينتزعها من أصحابها مع دفع تعويض عادل عنها إذا كانت في سبيل المصلحة العامة للمسلمين.
من شروط الإحياء قصد البقاء وانتفاء الضررين العام والخاص:
ومن هذه الشروط أو تلك الضوابط التي تلزم مصاحبة العمل ليكتسب الإحياء الصفة الشرعية، أن يكون القصد الانتفاع والاستثمار للسكنى أو الزراعة والغراس وليس بقصد التملك فقط، ومن تلك الضوابط ألا ينجم بسبب الإحياء أي ضرر خاص أو عام قال في المطالب: (أما الظاهر من المعادن)، وهو الذي يتوصل إليه من غير مؤونة مما ينتابه الناس وينتفعون به كقطيع الطين والملح والكحل والكبريت والقار والنفط (فلا يجوز إحياؤه) بغير خلاف؛ لأن فيه ضررا بالمسلمين وتضييقا عليهم لأن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ
(أقطع أبيض بن حمال معدن الملح فلما قيل له إنه بمنزله الماء العد رده) أي استرجعه.
ولا شك أن حمى الأرض من أجل تخطيطها لامتداد المدن وتوسع العمران هو أشد ضرورة وألزم من الحمى من أجل رعي الدواب، فالحكومة قد أكدت بشكل قاطع أنها حمت ما حول المدن من الموات ليكون مجالا للتخطيط السكني لامتداد العمران؛ لأنها أعلنت منع الإحياء إلا بعد التخطيط وبعد الإذن هذا إذا جاز أن نسمي مثل هذه الأراضي بالموات، حيث يقول الأستاذ محمود المظفر بعد استعراض الآراء والمذاهب كافة: (والظاهر أنه لا خلاف بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في المنع من إحياء الحريم الذي تتعلق به مصلحة العامر سواء كان هذا العامر منبعا مائيا أو معدنيا، وسواء كان قرية أو مزرعة؛ ولهذا اعتبروا انتفاء كون الموات حريما للعامر شرطا من شروط الإحياء).
ويقول الشيخ الأستاذ محمد أبوزهرة: (ويشترط لاعتبارها مواتا ألا يكون منتفعا بها فعلا بطرق أخرى من طرق الانتفاع غير الزرع كأن تكون قريبة من المدينة أو القرية فإن هذا النوع من الأراضي لا يكون مواتا بالفعل).
وعلى فرض اعتبار مواقع النزاع من الموات فإنها محجوزة من قبل الحكومة لمصلحة المدينة بأوامر معلومة لدى الجميع وهذا نوع من الحمى: وهو كما يقول محمود المظفر حجز مساحة من الأرض من قبل الدولة لبعض أغراض المنفعة العامة فإنه لا يختلف عن الإقطاع في اعتبار تجرد الموات منه شرطا من شروط الإحياء؛ وذلك لتعلق الحماية هذه بأغراض المنفعة العامة مضافا إلى إقراره وصدوره من الشارع وتضافر الأدلة على مشروعيته وعلى عدم إمكان تزلزل الحق فيه بتجاوزات الغير بالإحياء أو نحوه.
بل عن من يمعن النظر فيما أورده الماوردي يكاد يلمح حقيقة هي قول الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم: (وهذا حماي) فكأن هذه العبارة تكملة لعبارات التشجيع التي حث بها أصحابه على الإحياء واستثمار خصوبة الأرض، حيث يكاد المرء أن يستشف بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أذن لهم ذلك الإذن العام بالإحياء فخرجوا يتعادون يتخاطون وخرج هو عليه السلام فحمى هذا الموقع ومنع إحياءه أو تملكه على وجه الاختصاص، وفي هذا الصدد يقول الشيخ البهي الخولي: (واستيلاء الدولة على مرفق ما من أجل المصلحة العامة حقيقة قديمة يعرفها الإسلام وهو المعروف في كتب الفقه الإسلامي باسم (الحمى) أي حماية المرفق العام من أن يملكه الأفراد ومن فعله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أنه حمى مكانا اسمه النقيع فجاء أبوبكر - رضي الله عنه - فحمى الربذه، وجاء عمر من بعده فحمى مكانا ثالثا اسمه نقيع الخصمات وكانت هذه الأماكن مراعي عامة لجميع المسلمين فلما اقتضت مصالح المسلمين الضرورية تخصيصها لخيل الجيش وإبل الصدقة والجهاد كان ذلك هو الحمى).
قال الماوردي: (عن حمى الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جائز كجوازه له؛ لأنه كان يفعل ذلك لصلاح المسلمين لا لنفسه فكذلك من قام مقامه في مصالحهم).
وبناءً على ما سبق، فإنه يحق لولي الأمر منع الأفراد من إحياء أي موقع قامت أو ستقوم الدولة بتخصيصه لأي غرض عام تراه لخدمة الأمة وللصالح العام فحمى المناطق المقررة لامتداد المدن واتساع العمران هو من أظهر المصالح العامة وأوضحها؛ ولهذا أعلنت الدولة منذ عام 1354هـ عدم جواز إحياء حواشي المدن وما حول العمران إلا بعد التخطيط وبعد إذنها بالإحياء، ولقد استقدمت الدولة الفنيين من شتى أقطار الأرض وتعاقدت مع شركات عالمية متخصصة وأنفقت في سبيل ذلك مبالغ طائلة، كل ذلك من أجل تخطيط المدن وتحديد مناطق الامتداد ووضع نطاق التوسع في البناء.