الهيئة الشرعية العليا وتسارع الخطى

بدأ الماء الراكد بالحراك، وبدأ الفقهاء المنتشرون هنا وهناك ولا يعلون منصات الهيئات الشرعية المحدودة على امتداد المناطق الجغرافية للمؤسسات المالية الإسلامية في التندر بسلبيات الهيئات الشرعية القائمة والبحث عن الأخطاء وإن كانت من وراء الكواليس أو في جلسات العشاء المترفة في المؤتمرات، وعليه فإننا ننصح بأن نحافظ على هذا الهرم من السقوط، ونحفظ للعلماء هيبتهم من خلال ضبط هذا الركن المهم بمرجعية لا تعني توحيد الفتاوى بقدر ما تعني الانسجام مع مقاصد ومصالح الصناعة ككل.

إن مضي العمر بالأعضاء المتمركزين حاليا، وتسارع الزمن، إضافة إلى الاحتكار الغالب على هذه الرموز، وحاجة الصناعة لمخاطبة العالم ككل بلغة واحدة، وعدم استغلال الصناعة من خلال إضعاف أهم ركن فيها، تستوجب إعادة النظر ورسم خطوات المستقبل من خلال المرجعية العليا المستقلة.

وتصورنا للمرجعية العليا أن تكون تابعة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة لا أن تتبع هيئة المراجعة والمحاسبة الشرعية في البحرين أو مجلس الخدمات في ماليزيا أو حتى المجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ومبررات هذا الاقتراح هي معالجة التحديات التي تحيط بصناعة المال الإسلامي وبأهم ركن فيها، إضافة إلى أن مجمع الفقه الإسلامي يفترق عن كل ما ذكر من المؤسسات، وقد تم اقتراح بعضها في إحدى ندوات البركة والتوصية بأن يتم تفعيل المرجعية الشرعية من خلالها، ونقول إن اعتماد مجمع الفقه الإسلامي الدولي أولى للأسباب التالية: أولا: لأنه مرجعية فقهية دولية. ثانيا: عدد الدول الأعضاء في المجمع 43 دولة ممثلة بواحد أو أكثر من علماء الفقه والخبراء المميزين في مجالات المعرفة الإنسانية. ثالثا: المجمع أعضاؤه من الدول وليس مقتصرا على المؤسسات المالية أو الهيئات الإشرافية.

أما فيما يتعلق بهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية وكذلك مجلس الخدمات أو المجلس العام، فإن هذه المؤسسات معنية بحكم نظامها الأساسي بوظيفة محددة كل حسب اتجاهه، ولم أجد في أنظمتها التأسيسية ما يشير إلى قدرتها على تمثيل الحكم الشرعي الفصل في أمور المال الإسلامي ككل من غير تخصصية، وعليه فإننا لضمان الاستقلالية التامة، نجد أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي مع تعديل بسيط في هيكليته من الممكن أن يعتلي منصة الترجيح في فقه المعاملات المالية المعاصرة، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن من أعضاء المجمع من هم في المجالس الشرعية للهيئات التنظيمية المذكورة أيضا.

لقد بين الشيخ الزرقا ـــ رحمه الله ـــ أن الشرارة الأولى للبدء بتدوين موسوعة للفقه الإسلامي بدأت في مؤتمر تابع لكلية الحقوق بجامعة باريس عام 1951 بقول نقيب محاماة سابق في باريس "أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلاحيته أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ"؛ ومن ثم تمت التوصية بوضع معجم للفقه الإسلامي، وقد كانت تلك حاجة قانونية.

استجابت لهذه الدعوة سوريا ومن ثم مصر والكويت من خلال موسوعات فقهية تعتبر علامة فارقة في التأريخ والتثبيت للفقه الإسلامي وآرائه واستكتب علماء من شتى أنحاء العالم. ووجه ذكر هذا الموضوع الذي ابتدأ منذ قرن ونيف، أننا اليوم ننادي بذلك من واقع حال التحديات التي تواجه الصناعة، وعلى رأسها الهيئات الشرعية وتعدد الآراء الفقهية فيما يتعلق بالمعاملات المستجدة، ولا ننكر ما لذلك من إبداع وتنوع ولكن المصلحة تقتضي حصر هذا الخلاف والوصول إلى الترجيح فيه، والترجيح لا يعني أبدا إلغاء تعدد الآراء بقدر ما يعني توحيد اللغة الفقهية في بابٍ أن مصلحته تقتضي ذلك.

كل ما سبق من الممكن أن يكون مجرد حبر على ورق حتّى وإن تم قبول هذا المفهوم بالنسبة لصناع القرار وواضعي الخطط الاستراتيجية لهذه الصناعة ما لم يتم قبوله بصفة الإلزام من الدول الأعضاء؛ بمعنى إن تم الترجيح بين الآراء في موضوع التعثر في الصكوك الإسلامية الصادر عن المرجعية المقترحة على سبيل المثال وبالأدلة المدعمة، ولم يتم تبنى مثل هذه القرارات من هيئات الأوراق المالية والمحاكم التجارية أو التي تبُت في هذا النزاع سواء أكانت في الدول الإسلامية أو الغربية فإن الأمر يبقى محاطا بضبابية وعدم استقرار، وهو وضع لا يحفز أبدا حالات ابتكار لمنتجات جديدة، ودخول لأسواق جديدة بثبات وبهوية واضحة.

إن العمل على وجود هذه المرجعية في فقه المعاملات المالية الإسلامية المعاصرة يكون بالتوازي مع إقرارها من الهيئات الإشرافية والرقابية في الدول الأعضاء حتى نستطيع أن نقطف ثمار الفهم الواحد، واللغة الواحدة ونتوجه إلى أمور أخرى تحتاج إليها الصناعة من مثل ابتكار المنتجات وتحفيز المهتمين على دراسة فقه المعاملات المالية الإسلامية وتشكيل صياغة جديدة لاحترام الاختلاف في الرأي في المسائل الاجتهادية ولكن في الوقت ذاته احترام أكبر وفهم مسؤولية تشكيل وجه الصناعة الفقهي من غير تلون.

هذه الدعوة قد تلاقي القبول أو الرفض كما تعودنا، ولكن أن نسمع بمصطلح تفصيل المنتج المالي ليتناسب مع المناطق بحسب وجهات النظر الفقهية تحقيقا لجذب السيولة المستهدفة، أو الأرباح والمستثمرين بكافة الطرق ومن كافة المناطق الجغرافية سيعرض الصناعة لهزات مماثلة للصناعة التقليدية .. وهذا ما نخشى أن نسمعه في المستقبل القريب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي