هل تعاني إسرائيل عزلة؟
يعاني اليهود منذ القدم ومنذ سجل التاريخ وجودهم عقدة الاختلاف. فالآخرون الذين يطلقون عليهم اسم الأغيار gentiles يكرهونهم ولذلك تعرضوا للطرد من مصر قديما ومن سبع دول أوروبية في مراحل متأخرة، فقد طردهم ألكساندر الأول من روسيا، وفرديناند وإيزابيلا من إسبانيا، وأعملوا فيهم محاكم التفتيش الإسبانية، وإنجلترا زمن هنري الثامن طردتهم، وكذلك فرنسا في عهود كثيرة، وألمانيا في العهد النازي، والنمسا في القرن الـ 19 ... إلخ، وقيل إن الحركة الماسونية بدأها بناءون يهود كانوا يخشون أن يقتلهم السيد الإقطاعي بعد إتمام بناء قصره، فأنشأوا جمعية البنائين الأحرار Free masons لمتابعة حركة اليهود وليتأكدوا من عودتهم. وهذا دليل على الرعب الذي يعيشونه في أي مجتمع يوجدون فيه. والمتابع للإعلام الصهيوني واليهودي عامة في صحفهم ومجلاتهم ومحطات إذاعاتهم وتلفزتهم يلاحظ حضورا عارما لفكرة السامية ومعاداة السامية، وهي التهمة الجاهزة دوما لإلقائها على كل من يتصدى لهم أو يتناولهم بالنقد مهما كان مستحقا.
وقد اطلعت أخيرا على دراسة صادرة عن مركز بيجين ـ السادات للدراسات تساءل فيها كاتبها البروفيسور إفرايم إنبار عن قضية تشغلهم هي: هل إسرائيل في عزلة حقا؟ وقال إن إسرائيل ليست معزولة كما يود خصومنا إقناعنا، فهي نشطة دبلوماسيا، ويركز الكاتب على أن فكرة العزلة متداولة بشدة داخل إسرائيل وخارجها. والحقيقة أن هذه طبيعة العقلية اليهودية التي تباعد بين أي أجناس أو عناصر أو ديانات أخرى وبينها، بعضهم يشعر بأنه شعب الله المختار، والبعض الآخر أكثر واقعية، ويعلم أنه دائما أبدا ينتمي إلى قلة من البشر، وحتى في إسرائيل، حيث يمثل اليهود الأغلبية، فإن هناك الشعور بأنهم أقل. ولا ننسى حديث جولدا مائير الذي قالت فيه ''كلما ولد أحمد جديد ـ استبدت بي الهموم''. وأحمد تقصد به الفلسطيني. ونظرا لأن اليهود قوم لا يتمتعون بخصوبة شديدة كما تقول الإحصائيات على امتداد عشرات السنين، ولأنهم لا يقبلون في ديانتهم إلا من كان لأم يهودية، مع عدم فتح باب الدعوة كما يفعل المسلمون أو التبشير والتنصير كما يفعل المسيحيون، فهم في خطر البقاء بأعداد أقل من كل من يحيطون بهم. وهي عقدة مزمنة لا يبدو أنهم قادرون على الفكاك منها، بل إن علماء اجتماع كثيرين ــ من اليهود ـــ قالوا صراحة إن هلاك إسرائيل سيكون بسبب العوامل الديموغرافية (السكانية) بفضل عمليات الطرد اللاإرادي التي تتم عندما يتمدد جنس في بقعة جغرافية على حساب آخر.
والشعور السائد في إسرائيل لدى كثير من الإسرائيليين أن إسرائيل تقف وحدها، وأن الدولة اليهودية تعيش في عزلة عن العالم. وفي استطلاع للرأي أجري في آب (أغسطس) الماضي حول وضع إسرائيل في المجتمع الدولي، أوضح 54 في المائة أن إسرائيل منعزلة كليا أو جزئيا، وقال 46 في المائة إن إسرائيل ليست منعزلة. أما الاستطلاع نفسه فعندما تم بين يهود الشتات Diaspora فقد جاءت النتيجة أكثر حدة لأنهم كجاليات أقلية يشعرون باتجاهات معاكسة لمعتقداتهم، خاصة مع الحضور الحاد لفكرة السامية ومعاداة السامية. والسبب الأكبر الذي أوصل نتائج الاستطلاعات إلى هذه الدرجة يرجع إلى الإعلام المعادي لإسرائيل رغم كل محاولاتها لاستقطاب وسائل الإعلام وشراء الإعلاميين والضغط عليهم في الدول المؤثرة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
وضرب الإسرائيليون الذين يعتقدون في عزلة إسرائيل أن تقرير جولدستون الذي أظهر للعالم بشاعة تعاملهم مع المسالمين من الفلسطينيين وحادث السفن المتجهة إلى غزة والتي تعرضت لهجوم جيش إسرائيل، جعلت صورة إسرائيل قبيحة أمام العالم خاصة مع تكرار بطشهم في غزة.
ويرى كثيرون من الإسرائيليين أن استمرار صراعهم مع الفلسطينيين يكلفهم الكثير، حيث أصبحت إسرائيل منتقصة الشرعية وشديدة العزلة.
ويقف اليسار الإسرائيلي وراء هذه الفكرة، لذلك فهم يطالبون بسرعة الاتفاق مع الفلسطينيين مهما كان الثمن. ولكن اليمين يتهم اليسار بأنه غير واقعي، لأن إسرائيل كانت تعاني في الماضي عندما قطعت أكثر من 50 دولة علاقاتها بإسرائيل، ولكنها عادت الآن وعلى رأسها دول الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا السابقة ومعظم دول إفريقيا وآسيا، بل هناك قوى عظمى مثل الهند والصين ودول محورية مثل نيجيريا وتركيا وروسيا.
ويقول إنبار إن أية دولة تشتم رائحة التهديد الإرهابي تقترب من إسرائيل، وأي دولة تخشى الإسلام الأصولي تتحالف مع إسرائيل، لأن إسرائيل كما يقول لديها الكثير الذي تقدمه في مجالات الاستخبارات والأمن، فضلا عن أساليب متطورة في مواجهة الإرهاب. وبسبب التهديد الإسلامي، كما يزعم إنبار، فإن عدد الدول التي تسعى إلى التحالف مع إسرائيل يتزايد، رغم استمرار الصراع مع الفلسطيني.
ويضيف إفرايم إنبار أن العلاقات مع العالم الإسلامي تحسنت، فإسرائيل لديها معاهدات سلام مع مصر والأردن، وقد ظهرت قوة العلاقات مع هاتين الدولتين عندما وقعت حرائق الكرمل وشاركت فرق إطفاء من الدولتين في إسكات النيران، وهو موقف يقترب من المستحيل بالمعايير السابقة للعلاقات مع العرب، ودليل على تحسن علاقة إسرائيل بأعتى أعدائها السابقين. ولدى إسرائيل علاقات متذبذبة بين القوة والضعف والتوقف مع العديد من دول الخليج ودول المغرب العربي.
الأهم من ذلك أن العرب يتحدثون عن السلام، وها هي مبادرتهم التي ترفضها إسرائيل لأنها تمثل موقفا قوامه ''إما أن تقبل أو تبتعد''، وهذا يعني أن هناك اعترافا ضمنيا بإسرائيل، وهذا تغير تاريخي بكل المعايير، وقد تبخرت الآن المقاطعة العربية لإسرائيل، ولم يبق إلا إيران الراغبة في إشعال الموقف.
وتتمتع إسرائيل كذلك بعلاقات مثمرة مع عدد من الدول الإسلامية، التي نشأت من تمزق الاتحاد السوفياتي، فالوجود الإسرائيلي قوي في أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وأوزبكستان، ولا تتردد أية دولة من هذه في تنشيط العلاقات مع إسرائيل لمصلحتها، لأن هذه الدول لا تكاد تشعر بأي تعاطف مع الفلسطينيين.
أما الولايات المتحدة فقد ترسخت علاقات الصداقة بينها وبين إسرائيل منذ عام 1973 وما زالت الروابط الاستراتيجية في غاية القوة رغم أن أوباما لا يحقق لإسرائيل كل ما تريد، ولكن على امتداد 40 عاما لم يضعف التأييد الأمريكي لإسرائيل، ويترجم ذلك في شكل دعم الكونجرس الذي يحب إسرائيل، كما تتمتع إسرائيل الآن بصداقة أكثر دول العالم سكانا وهما الهند والصين، وأهم ما يميزهما في رأي الإسرائيليين عدم وجود نزعة معاداة السامية لديهما كما هو الحال في أوروبا، حيث يعاني اليهود كراهية فطرية رغم كل ما تبرزه وسائل الإعلام.
وتحظى إسرائيل ''باحترام'' دول آسيا رغم أن كثيرا من هذه الدول لا يصوت لصالحها في الأمم المتحدة، وهنا نلاحظ كيف أن إسرائيل مغضوب عليها في العديد من بقاع الأرض لسياساتها التوسعية والقمعية والاستقواء بالولايات المتحدة لمحاولة السيطرة على الشرق الأوسط، الذي يكن لها عداء حقيقيا رغم ما قد يتبادر لذهن من ينظر للأمور بسطحية.
وهناك دول لا تستريح لإسرائيل وتعتبرها المسؤول الأول عن إشعال الحروب في وقت لم تعد الحروب أمرا مستحبا أو مقبولا، من هذه الدول بلجيكا وإيرلندا والسويد والنرويج، أما ألمانيا وإيطاليا وفرنسا فلديها درجة تعاطف مع إسرائيل ربما لوجود مراكز يهودية قوية هناك إلى جانب ظهور الإسلام بصورة عنيفة وهو يطالب بالقضاء على إسرائيل، كما يتعاطف مع إسرائيل كل الدول الأوروبية الشرقية التي انضمت أخيرا للغرب، وهي تتعاطف مع استعمال إسرائيل للقوة، لأنها دولة صغرى. ومهما كان من شكل الصورة التي ينقلها إنبار فإن إسرائيل محاصرة بالكراهية التي يصعب محوها.