قمة الخرطوم في ميزان المصالح الإقليمية والدولية
منذ بضعة أيام اجتمع في الخرطوم رؤساء السودان ومصر وليبيا وموريتانيا ومعهم رئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير. وعكست ابتسامات الرؤساء روح التفاؤل والمودة ولكنها لم تتوقف كثيرا عند ما يسميه الأتراك ''برنجي سبب'' أي عند أهم نقطة وهي هل هناك انفصال ثم اتحاد يلوح في الأفق؟
هذا التجمع يثير تساؤلات مهمة: هل أصبح الانفصال حقيقة نهائية وبدأت إجراءات تسويقها للشعوب؟ لكن البيان الذي صدر عن الرؤساء يقول إنهم بحثوا أفضل السبل التي تتيح إجراء الاستفتاء في جو من السلام والهدوء والمصداقية والشفافية (يلاحظ كثرة استخدام هذا التعبير في المفردات السياسية أخيرا مع أنه صعب المنال)، وأصر الرؤساء على بدهية أن يكون الاستفتاء تعبيرا عن إرادة شعب الجنوب، وحتى الآن وبعد إقامتي لست سنوات في السودان لم أعرف من الذي سيقول رأيه، وما موقف ملايين الجنوبيين الذين يعيشون في الشمال واستقرت أحوالهم المعيشية، وكيف يلبون نداء العرقية بما ينسف مصالحهم الشخصية؟
أصر الرؤساء على أهمية أن تكون نتيجة الاستفتاء على أي وجه إيجابية على مستقبل السودان. ونتساءل كيف يؤدي نقيضان إلى طريق واحد أو نتيجة واحدة؟ إن الانفصال يعني تهدما في مؤسسات وتصدعا في كيانات، بل تشردا لملايين الأبرياء الذين يجري شحنهم بالشوفينية والاندفاعات العرقية. وماذا عن الروابط التي تأسست عبر الزمن؟ ألا يراجع هؤلاء ما حدث في يوغوسلافيا السابقة التي انفصلت دويلاتها سلوفينيا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا وغيرها ومعها تصدعت علاقات أسرية بين كرواتي تزوج صربية أو سلوفاني تزوج مقدونية؟ والنموذج الانفصالي القسري في كوريا الذي ما زالت شبه القارة الكورية تكتوي بناره حتى الآن. ولا نطالب هنا بتفضيل موقف على آخر ولكننا نتساءل لماذا لم يقف الرؤساء عند المآسي المتوقعة؟
وعاد البيان يحكي عن الروابط التاريخية التي ينبغي أن تبقى بعد الاستفتاء وهي روابط ثقافية واجتماعية واقتصادية وجغرافية تمددت عبر الأجيال لتصبح حقائق يتجاهلها من يدقون طبول الانفصال.
وهل شرح الرؤساء لأهالي الجنوب أن بلدهم سيصبح دولة مغلقة لا مخارج لها Land locked؟ وأن ذلك سيلقي بهم في أحضان كل من يعرض عليهم مخرجا؟ هل درس هؤلاء حالة أفغانستان وتشاد وكل منهما دولة مغلقة وقعت دائما فريسة الصراعات العرقية، لأن الدولة المغلقة أشبه بمرجل تفور وتغلي فيه المياه فيصيب ذلك أبناءها.
أما عن التوقيت فهو الأعجب، إذ إن بقعة من أكثر بلاد العالم تخلفا إن لم تكن الأكثر يأتيها خير عميم هو النفط، تطلب الدخول في بحار المشاكل قبل أن تذوق نعيم الراحة الاقتصادية.
ونتفق مع الرؤساء في إدراك أهمية التطورات الحالية التي يمر بها السودان مع بدء العد التنازلي لموعد الاستفتاء والتي تتعامل معه جهات دولية وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل على أنه موعد الانفصال، بل نشم في وسائل الإعلام العالمية والتي يهيمن الأمريكيون عليها أن نزعة الانفصال هي السائدة وأن أي حديث عن بديل آخر مرفوض تماما، مما يشي بالكثير.
وقد أعلن الزعماء عن أهمية بذل الجهود لزرع الثقة بين الطرفين والعمل على تسهيل الحوار بينهما للتوصل إلى اتفاق حول القضايا الخلافية.. ونود أن نشير هنا إلى الحالة الإثيوبية ــ الإرترية التي كانت من أولى حلقات تفكيك الدول ذات العرقيات المختلفة أو ذات المساحات الكبيرة والتي يقع تحت مظلتها الكونغو والجزائر والسودان وإثيوبيا، في الحالة الإثيوبية ظلت جهود الوساطة بعيدة بأوامر العم سام حتى أصبحت إثيوبيا العريقة دولة مهيضة الجناح وبلا موانئ. في انتظار إذكاء روح العداء بين التجري والعفري لصالح من يعشقون الدويلات.. ومعروفة أن الدويلات أسلس قيادا وأكثر طاعة من الدول، لذلك تعجبت من هذا الجهد الرائع لزعماء أجلاء اقتطعوا من وقتهم ''للتقريب'' بين الأطراف، علما بأن قطبي الصراع رئيس دولة هو عمر البشير ورئيس وزراء الجنوب ونائبه سلفاكير، وهما الأقرب من أية وساطات ولم يخف الزعماء إشادتهم بتوافق طرفي اتفاق السلام الشامل حول جانب كبير من القضايا التي لم تفصح عنها البيانات الصادرة عن الاجتماعات وإن كانت الاتفاقات هي حاصل جمع اتفاقات ومعاهدات ولقاءات قديمة تصب كلها في مصلحة تحقيق الانفصال في سهولة ويسر.
وإذ نعلم أن الوقت قد نفد بدرجة كبيرة، إلا أننا واثقون بأن الجنوب سيفتح على نفسه نار جهنم. فالشيلوك والنوير والدينكا قبائل الجنوب الرئيسة لها ملفات وحسابات ومنافسات ستستعر نيرانها عندما يسعى كل فريق إلى السلطة خاصة وأنها أصبحت سلطة يرطبها دولار النفط ويجعل منها جائزة تستحق الصراع. نضيف إلى ذلك مئات القضايا الخلافية بين أبناء الجنوب وبعضهم البعض، وبينهم وبين الشمال حرصا من كل طرف على أن يحتفظ لنفسه بأكبر قدر من المكاسب.
ونذكر قراءنا الأعزاء أن لدى الولايات المتحدة كوادر سودانية شمالية وجنوبية جرى إعدادها في جامعات أمريكا لتسيير سودان جديد بروح جديدة وهي روح تقترب من الفيدرالية الأمريكية كما يلوحون لهم.
وقد عمق الاجتماع الشعار المطروح الآن فيما يتعلق بالسودان ويتلخص في كلمة الاستقرار، والتي جرى تداولها على لسان كل الإعلاميين الذين رافقوا السادة الرؤساء ، واتضح أن الهدف الأول لهذا الاجتماع الذي لم تظهر مقدماته إلا في الأيام الأخيرة، هو مواصلة العمل المشترك لاستكمال ترتيبات إجراء الاستفتاء في مناخ من الثقة المتبادلة يضمن تفادي أية أعمال من شأنها تعكير التفاهم اللازم لإجراء الاستفتاء والاتفاق على ترتيبات العلاقات المستقبلية بين الطرفين.
ولقد جرت الإشارة إلى الطرفين الشمالي والجنوبي على أنهما الشريكان والحقيقة أن هذا المسمى المؤقت ضرب من الدبلوماسية، ويفيد بعض المراقبين أن الزعماء الأفارقة الذين توجهوا إلى الخرطوم قدموا رسالة ضمنية للرئيس البشير بعدم استخدام القوة، خاصة إذا ما أعلن الجنوب انفصاله من طرف واحد، وهو إجراء متوقع للغاية إذا لم يقدم الاستفتاء الحل المطلوب عالميا وأمريكيا وإسرائيليا ـ أي الانفصال.
النقطة الإيجابية هي اتفاق جميع الأطراف على أهمية العمل المشترك من أجل التنمية الاقتصادية لصالح شطري السودان، بل وجرى التصريح بأن التعاون لابد أن يشمل جميع المجالات، بل ويجب أن يتوجه السودان بروح جديدة لكل جيرانه بالنظر للتاريخ المشترك والمستقبل الواعد. والحديث عن التعاون التنموي قد يشي بأن هناك الأب الروحي الذي يتولى تنمية الطرفين إذا ما أظهر الانضباط اللازم في إطار الخطة الموضوعة لتسيير العلاقات الإفريقية هذه الأيام.
وتعتبر مشاركة الرئيس مبارك في اللجنة الرباعية للرؤساء خطوة إيجابية تعكس خروج مصر من عنق زجاجة سياسي كانت تتداول فيه فكرة أن كل ما يعنيه السودان لمصر هو مياه النيل، ولكن الزيارة كشفت عن آفاق متعددة تربط مصر بالسودان، ولا يعقل معها أن تقف بمعزل عما يدور فيه من تطورات وتحولات جذرية ستبقى عواقبها لسنوات وربما لقرون قادمة.