«دعاوى التعويض عن أعمال الجهة الإدارية»
الحمد لله الذي علمنا ما لم نعلم، وبعد؛ استكمالا لما سبق في المقالين السابقين، فإنني سأتكلم عن دعاوى التعويض عن أعمال الجهة الإدارية باعتبار أنها وردت في نص الفقرة (جـ) من المادة (13) بصيغة واضحة في الفصل بينها وبين القرارات عندما قيل: (... عن قرارات أو أعمال جهة الإدارة)، وأعمال الجهة الإدارية عديدة في مجال القيام بالواجبات، والمسؤوليات المخولة لها بموجب الأنظمة واللوائح المنظمة، وكلها يفترض أنها تحقق المصلحة العامة، ولا يترتب عليها أي ضرر بشخص طبيعي أو اعتباري، وهذا كقاعدة عامة، ولكن من خلال الممارسات العملية قد يحصل من الجهة الحكومية ضرر بأحد الأشخاص جراء مزاولة عمل من أعمالها؛ ولهذا كفلت الشريعة الإسلامية، والنظام الذي سنَّه ولي الأمر الحق بالتعويض عن الضرر إذا ثبت حصوله أمام القضاء المختص؛ ولذا نجد أن نظام ديون المظالم الجديد خوَّل المحاكم الإدارية النظر في دعاوى التعويض عن أعمال الجهة الإدارية، وهي التي ترفع من المدعين تجاه الجهة الإدارية التي حصل منها العمل المتضرر منه، كأن تقوم جهة إدارية بمنع مالك لعقار من التصرف فيه، أو الانتفاع به، أو استغلاله؛ لأن هذا التصرف يخالف الشريعة الإسلامية، ومقتضى الأنظمة المعمول بها، وغير ذلك من الأعمال المماثلة، وقد نُص في المادة الثامنة عشرة من النظام الأساسي للحكم أن (تكفل الدولة حرية الملكية الخاصة وحرمتها، ولا ينزع من أحد ملكه إلا للمصلحة العامة على أن يعوض المالك تعويضا عادلا)، وقد أكد ذلك بتعميم رئيس مجلس الوزراء رقم 17151 بتاريخ 12/7/1400هـ الذي قضى بعدم جواز تخصيص أرض مملوكة للغير لاستخدامها للمرافق العامة إلا بعد اتخاذ إجراءات نزع الملكية طبقا للنظام، وهذا يعني أن الجهة الإدارية لو خالفت هذا التعميم، واستعملت أرض مواطن، أو منعته من التصرف فيها، فإن هذا يُعد من أعمال الإدارة الموجبة للتعويض بدليل ما نُص عليه في الأمر السامي رقم 4/1349/م وتاريخ 4/5/1404هـ، والذي قضي بأحقية كل من استعمل ملكه دون رضاه في المطالبة بالتعويض.
وإذا أردت أن استعرض بعض أعمال الجهات الإدارية بأمثلة تطبيقية من أحكام ديوان المظالم، فهذا أفضل باعتبارها سوابق قضائية، وعلى أساس من هذا، فقد صدر حكم للديوان برقم (254/ت/3 لعام 1410 هـ) أُشير فيه إلى ما يقضي به نظام الجمارك لعام 1372 هـ من تخويل الجمارك حق التصرف في البضائع والأدوات المهربة ووسائل النقل المستخدمة في التهريب... إلخ؛ وذلك خشية من التلف أو النقص، وجاء في حيثيات (أسباب) الحكم أنه لما كانت اللجنة الجمركية قد قررت عدم مصادرة السيارة لبراءة المدعي، فقد أدين تصرف الجمارك ببيع السيارة؛ لأنها لا تتلف بسرعة، وأن بيعها خلال فترة قصيرة يُعد عملا مخالفا للنظام مما يوجب إلزام الجمارك بتعويض المدعي عما أصابه من ضرر نتيجة عمل الإدارة، وقد قرر التعويض الذي يمثل الفرق بين ثمن بيعها بالمزاد، والسعر الذي اشتراها به المدعي، وهذا يُعد - في رأيي - تعويضا عن عمل الجهة الإدارية باعتبار ما حصل نتيجة المسؤولية التقصيرية، أو خطأ في تصرف الإدارة، وفي حكم آخر صدر من الديوان برقم (719/ت/ 1 لعام 1411هـ) أُشير فيه إلى أن شراء مواطن لقطعة أرض ثابتة الحدود بصك شرعي، وثبوت زيادة مساحة الأرض عن المساحة الواردة بالصك لا يجيز لجهة الإدارة تقسيم الأرض، والتصرف في المساحة الزائدة، بل على الجهة الإدارية أن تبيع الجزء الزائد للمشتري عملا بالأمرين الساميين رقم 16515 وتاريخ 15/7/1386 هـ، ورقم 17662 وتاريخ 25/7/1386هـ، وأمر وزير الداخلية رقم 1/1/1/3/14984 وتاريخ 24/10/1386هـ، والتي جميعها تجيز بيع الزائد من الأرض لمشتريها، وهذا وصف تصرف الإدارة بتقسيم الأرض بالقدر الزائد دون سند نظامي بأنه يُعد عملا باطلا، ولا شك أن ثبوت البطلان يقتضي تصحيح العمل بما يتفق مع النظام، وفي رأيي أنه قد يكون بالتعويض إذا لم يكن بالإمكان بيع الزائد من الأرض على المشتري رافع الدعوى إذا كانت الجهة الإدارية قد تصرفت في القسم الزائد بشكل يحول دون بيعه على المدعي.
والأمثلة كثيرة على التعويض عن أعمال الجهة الإدارية، وأن أختم الأمثلة بما قضى به حكم هيئة التدقيق رقم (78/ت/1 لعام 1412هـ) بإلزام أمانة مدينة جدة أن تدفع للمدعيين...... مبلغا (....) تعويضا لهما عن حجز أرضهما محل الدعوى، وهذه الرقابة القضائية على قرارات وأعمال الإدارة تُعد ذات أهمية لحماية المراكز الفردية، والحقوق الشخصية، ويكفل تحقيق الاستقرار لأعمال الإدارة، وللمراكز القانونية التي تترتب عليها.
والرقابة القضائية من أهم الجهود الرقابية الفعالة على الجهات الإدارية، والأجهزة ذات الشخصية المعنوية العامة المستقلة؛ وذلك لأن المحاكم الإدارية تصدر أحكاما نهائية واجبة النفاذ فور صدورها، وهذا يحقق ما توخاه واضع النظام (المشرع الوضعي)، والجدير بالذكر أن النظام الجديد لم يُنص في نهايته على تاريخ سريانه، بل ترك ذلك بعد اكتمال أعمال تمهيدية (أو تحضيرية أو انتقالية) قد لوحظ أنها قد تطول بدليل مضي ثلاث سنوات تقريبا، ولم ينفذ النظام من الناحية الشكلية والموضوعية باستثناء التعيينات الوظيفية للقضاة الذين لا يزالون يباشرون أعمالهم السابقة في هيئات التدقيق وفق نظام الديوان عام 1402هـ، ونأمل سرعة العمل بالنظام الجديد بشكل متكامل، ودون تعطيل أي نص من نصوصه، والمشكلة التي نلاحظها أن هناك تعطيلا لبعض النصوص في بعض الأنظمة، وكأن الأمر عادي مع أن هذا غير مستحسن، بل يُعد عيبا من العيوب التي تثار حول بعض الأنظمة التي يعطل فيها نص أو أكثر، وما نوهت عنه مجرد خاطرة رأيت من المناسب أن أشير إليها إشارة عابرة في آخر المقال؛ لأن تعطيل النصوص أمر مغلق لكل متخصص يعرف أهمية إعمال النصوص النظامية.
وأرجو أن يكون فيما أكتبه الفائدة المبتغاة، ولا شك أن ما أبديه هي آراء وأفكار وخواطر قد يتفق معي فيها أو جزء منها بعض الباحثين والدارسين، وقد يحصل العكس تماما، وهذا أمر عادي وطبيعي في أي بحث أو كتابة، وحسبي أنني بذلت جهدي المتواضع، فإن كنت مصيبا، فهذا بتوفيق من الله - عز وجل - وإن كنت أخطأت فمني، وأستغفر الله؛ وذلك لأن كل فرد معرَّض للخطأ والزلل، وليس هناك أحد معصوم إلا سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.