أستراليا..القارة الشابة تعلن ميلاد مركز مالي إسلامي في المحيط الهادي

أستراليا..القارة الشابة تعلن ميلاد مركز مالي إسلامي في المحيط الهادي

تعرف أستراليا بالقارة البعيدة، حيث تلك الجزيرة المحيطية الضخمة التي زاد من هدوئها بعدها عن بؤرة أحداث العالم العربي. إلا أن تلك القارة الشابة التي اكتشفت منذ زمن ليس بالبعيد آثرت إنهاء العزلة، ومدت يديها إلى الدول العربية والإسلامية بشكل عام وكانت كلمة السر هي التمويل الإسلامي. فالقارة الدولة ذات اقتصاد قوي لم تطح به الأزمة العالمية؛ ولكنها وجدت في المصرفية الإسلامية السبيل الناجع لتأمين اقتصادها لأبعد حد. كما أنها تقدم نفسها كأرض خصبة للاستثمارات المتوافقة مع الشريعة. وبالفعل فقد اتخذت عديدا من الإجراءات التي تؤكد مضيها قدماً في تبني تلك الصناعة المالية المتفردة

في مطلع العام المنصرم 2010 أعلنت الحكومة الأسترالية إصدار دليل شامل حول الخدمات المالية الإسلامية. ويحتوي هذا الدليل على تعليمات مفصلة عن فرص الاستثمار في هذا القطاع. كما يعرض سبل توفير النظام المصرفي الذي يتوافق مع أحكام الشريعة في قطاع الخدمات المالية الأسترالية. وفي هذا الصدد فوضت الحكومة الأسترالية مجلس فرض الضرائب بإجراء مراجعة لضمان أن المنتجات الإسلامية المالية متساوية من الناحية الضريبية مع المنتجات التقليدية. ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من هذه الدراسة بحلول الربع الأول من عام 2011، على أن تكون كل الإصلاحات التي تم تحديدها مطبقة في النصف الأول من العام كحد أقصى. وأكد سايمون كرين وزير الخارجية الأسترالي، أن صناعة التمويل الإسلامي بشكل عام تعد أساساً مهماً في استراتيجيات الحكومة الأسترالية التي ترمي إلى جعل البلاد مركزاً مالياً في المحيط الهادي. وأعرب عن استعداد بلاده لتقديم تلك الخدمات المصرفية لقرابة مليار مسلم يقيمون في الدول الإسلامية المجاورة لأستراليا.

وقد أعربت الحكومة عن عزمها وضع الآليات المناسبة التي تمكن أستراليا من تبوء مكان مركزي في منظومة قطاع التمويل الإسلامي. كما أكدت اهتمامها بدراسة النموذج المطبق في بريطانيا لتوفير الخدمات المالية وفق الشريعة الإسلامية، مشيرة إلى أن هناك عدداً من الحوافز لدخول النظام المصرفي الإسلامي إلى البلاد. أهمها مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية الراهنة، وإقامة جسر من الخدمات المالية بينها وبين بلدان الجوار الآسيوية المسلمة.

وتزامن هذا التصريح مع صدور "تقرير جونسون" الذي تضمن توصيتين غاية في الأهمية فيما يتعلق بالتمويل الإسلامي في القارة الفتية. أولهما: العمل على تذليل أي عقبات تنظيمية قد تعترض تنمية المنتجات المالية المطابقة للشريعة في البلاد. أما التوصية الأخرى فتتعلق بضرورة فحص قانون الضرائب لمعرفة إذا ما كان يستلزم إجراء أي تغييرات ليتناسب مع الخدمات المالية الإسلامية. ومن المتوقع أن تسهم هذه التعديلات في استقطاب البنوك الإسلامية المتكاملة إلى أستراليا، كما تجذب استثمارات المؤسسات الملتزمة بالشريعة في الأصول الأسترالية. ويمكن تقديم طرق تمويل جديدة من خلال الصكوك، فضلاً عن السماح بإطلاق منتجات استثمارية تتفق مع أحكام الشريعة.

وينتظر أن يشكل التمويل الإسلامي مصدراً بديلاً للإقراض بالجملة أمام المؤسسات المالية الأسترالية. ويعد فائض السيولة الوافدة من عائدات النفط في الشرق الأوسط من أهم تلك المصادر، إضافة إلى النمو الاقتصادي في الدول ذات الكثافة السكانية المسلمة مثل إندونيسيا والهند وباكستان. ومن العوامل المهمة التي تبشر بدور رائد لأستراليا في سوق المصرفية الإسلامية أنها تتمتع بمؤهلات رائدة على المستوى العالمي في تمويل القطاع العقاري، والبنية التحتية. وهذان المجالان يتيحان إمكانات كبيرة في مجال التمويل الإسلامي بالجملة، حيث إن كلاً منهما يضم كثيرا من الأصول الضمنية الفعلية، وهو ما يعد عنصراً ضرورياً للمشروعات المتوافقة مع أحكام الشريعة. ولا يمكن ترجمة هذه الإمكانات إلى واقع إلا في ظل وجود اهتمام جاد من الحكومة، وتصورات مشجعة من المستثمرين الإسلاميين في أستراليا.

وقد بلغ الاهتمام الأسترالي أوجه في الصيف الماضي عندما استضافت مدينة ملبورن "مؤتمر التمويل الإسلامي 2010". وقد جاءت مشاركة السيناتور نك شيري Nick Sherry مساعد وزير الخزانة الأسترالي، من خلال كلمة بعنوان "مستقبل التمويل الإسلامي في أستراليا". وبشّر خلال كلمته بأنه لم يعد هناك خيار في العالم بأسره فيما يتعلق بتبني مبادئ المصرفية الإسلامية، واصفاً تلك الصناعة بأنها "الكعكة" التي يجب ألا يفوت بلاده اقتناص نصيب وافر منها. وقد شهدت السنوات العشر الماضية قفزات هائلة لصناعة التمويل الإسلامي، حيث يتوقع أن تتجاوز قيمة الأصول المالية لها سقف 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2012، أي ما يعادل ضعف حجم الأصول الحالي.

وأكد شيري أن بلاده جادة للغاية فيما يتعلق بإدخال النظام المصرفي الإسلامي نظراً لأنها تسعى لأن تصبح مركزاً مالياً رائداً في هذا المجال. ويقدم قطاع الخدمات المالية الأسترالي فرصا كبيرة للبنوك الإسلامية، والمؤسسات المالية التي تعمل وفقا للشريعة، سواء في أداء عملها في أستراليا، أو تصدير منتجاتها المالية الفريدة إلى آسيا انطلاقا من القارة الدولة. كما أنها تقدم فرصاً للبنوك، والمؤسسات المالية العاملة في البلاد لتطوير المنتجات المالية المطابقة للشريعة لعرضها في الأسواق المحلية والعالمية على حد سواء.

ولكن أستراليا ـــ باعتراف مسؤوليها ـــ تأخرت إلى حد كبير في دخول تلك السوق المهمة. ويرجع الباحث لاحم الناصر هذا إلى عدة أسباب منها: ضعف ارتباط المسلمين بالثقافة الإسلامية، وقوة اندماجهم في المجتمع الأسترالي؛ حيث تشير التقديرات إلى أن نسبة المسلمين الذين يصلّون في المساجد لا تزيد على 30 في المئة، ومن ثم فلا يوجد الدافع لدى هذه الجالية للتوسع في إنشاء المؤسسات المالية الإسلامية. إضافة إلى بُعد أستراليا الجغرافي عن مناطق انتشار المصرفية الإسلامية، مما قلل من اهتمام أرباب هذه الصناعة بها، وعدم التفاتهم إليها. يضاف إلى هذين العاملين عامل القوانين الأسترالية التي لا تتواءم مع طبيعة وخصائص المعاملات المالية الإسلامية. إلا أن الأزمة العالمية كانت بمثابة صافرة الإنذار التي أيقظت الأستراليين من سباتهم ليجدوا في مبادئ التمويل الإسلامي طوق النجاة من أية أزمات مالية.

وقد أشار تقرير لوكالة موديز إلى أن المؤسسات المالية الإسلامية لديها إمكانات سوقية ضخمة لا تقل عن 5 تريليونات دولار. وتشير معدلات النمو الهائلة إلى الفرص الضخمة التي تنتظر أستراليا سواءً بالنسبة للمستثمرين أو الحكومة نفسها. وبحسب تقديرات الحكومة الأسترالية، يعيش نحو 400 ألف مسلم في البلاد ـــ أي 1.7 في المئة من السكان ـــ وهم عملاء متوقعون للتعامل بشكل فاعل مع خدمات المصرفية الإسلامية.

ويرى الخبراء أن أستراليا لديها عديد من النقاط الإيجابية التي تقدمها من منظور استثماري ومنها: توافر إطار عمل لاقتصاد كلي مثالي، ووجود كبريات شركات إدارة الصناديق العاملة فيها، والبيئة التنظيمية القوية. كما أن أستراليا تختلف عن بقية دول العالم في أنها لم تعان من تدهور كبير في قيمة سوق العقارات. وقد أدى هذا إلى تقديم فرص استثمار بديلة اجتذبت المستثمرين على مستوى العالم.

تخوفات ضد التيار

ولكن الصورة ليست وردية على طول الخط؛ فهناك أصوات لا تزال ترفض دخول المصرفية الإسلامية إلى البلاد باعتبارها تتعارض مع القيم الغربية. وقد شهد البرلمان الأسترالي سجالاً بين مؤيد ومعارض لإقرار قانون ينظم عمل المؤسسات المالية التي تعمل وفقا لأحكام الشريعة. ويتزعم الحزب الليبرالي جبهة المعارضة، حيث علق نوابه بأنه لا ينبغي تعديل إطار العمل القانوني كي يتوافق مع قوانين تتعارض تماماً مع القيم الغربية ـــ على حد تعبير نواب الحزب. واعتبر الحزب أن مثل تلك الخطوة ستكون بداية لتغييرات على نطاق واسع تشمل أموراً أخرى يتم فيها تطبيق الشريعة مثل نزاعات الملكية، والأحوال الشخصية ـــ كما أعلن كوري برناردي النائب البارز في الحزب. ولم يدخر نواب الحزب جهداً في التلويح بإمكانية استغلال المؤسسات المالية الإسلامية في غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب. واعتبروا أن المصرفية المطابقة للشريعة الإسلامية ما هي إلا الجزء الظاهر من الجبل الجليدي الذي يخفي تحته محاولة الأصوليين الإسلاميين غرس مبادئ الشريعة في المجتمع الأسترالي كجزء من "الصراع الثقافي" بين الإسلام والدول الغربية. وحرض المعارضون المواطنين على الجهر باحتجاجاتهم على أية محاولات لاستيراد الشريعة الإسلامية إلى بلادهم.

إلا أن كل هذا الهجوم لم يؤت ثماره في ظل القبول الذي لقيه المشروع بالنظر إلى الأبعاد الاقتصادية للأمر. وبلغ الأمر درجة أن وزير المالية بنفسه تصدى لدعوة برناردي لرفض مبادئ المصرفية الإسلامية. وصرح الوزير بيني وونج بأن المجتمع الذي يعيشون به منفتح ومتسامح، وقد رسمت أستراليا طريقها وحققت نجاحاً واضحاً وسط العالم بالانفتاح والتسامح والمنافسة.

مبادرات توعية

يعد الحراك الذي يشهده هذا القطاع من خلال بعض المبادرات في البلاد أمراً إيجابياً يشي أيضا بتنامي الوعي، سواءً على صعيد المجتمع أو صناع القرار. إلا أن هناك بعض المخاوف بين الأستراليين من تبني صناعة مالية ذات خلفية دينية. وفي إطار المساعي لتوضيح الصورة قامت شركة زايد إبراهيم وشركاه القانونية بإصدار كتيب بعنوان Demystifying Islamic Finance "إماطة اللثام عن المالية الإسلامية". وأسهم هذا الكتيب إلى حد كبير فى الإجابة عن عدد من علامات الاستفهام التي وضعها الأستراليون أمام الخطوات الخجولة التي بدأتها المؤسسات المالية في التعامل مع المنتجات والأدوات المطابقة للشريعة.

وثمة مبادرات في مجال التعليم والتدريب تطل برأسها معلنة تمهيد الطريق أمام الأستراليين للتعامل مع الأمر بحيادية وموضوعية. وعلى سبيل المثال أطلقت جامعة لا تروب La Trobe أول درجة ماجستير في التمويل والمصرفية الإسلامية. ويتم تدريس هذا البرنامج بالاشتراك مع المركز الدولي لتعليم نظام التمويل الإسلامي INCEIF في كوالالمبور. كما أن عدداً من الجامعات الأخرى أدخلت في مقرراتها مناهج متعلقة بهذا القطاع كجزء من مؤهل التجارة والمحاسبة. كما أن بعض المؤسسات أعلنت عن عقد دورات تدريبية متخصصة في التمويل الإسلامي لتخريج كوادر محلية قادرة على التعامل مع تلك الصناعة الوافدة.

بعثات ترويجية

على صعيد متصل فتحت أستراليا ذراعيها مرحبة ببعثات التعريف بالخدمات المالية الإسلامية من دول الخليج وماليزيا. وتعد تلك البعثات من أسباب تنامي الوعي بتلك الصناعة المالية الفريدة. كما أسهمت في اتخاذ الحكومة الإجراءات التنظيمية اللازمة لدخول التمويل الإسلامي في منظومة العمل المصرفي في البلاد. وتحقق تلك البعثات أهدافاً مزدوجة؛ فمن ناحية تروج المؤسسات الزائرة لما تقدمه من أدوات مطابقة للشريعة. وفي الوقت نفسه يتم اتخاذ خطوات على الأرض لنشر تلك الصناعة في أستراليا. وعلى سبيل المثال لا الحصر قامت مؤسسة دبي لتنمية الصادرات بأكثر من جولة في أستراليا لعرض المنتجات المالية الإسلامية، وعرض الحلول التي توفرها المؤسسات العاملة في الإمارات.

ومن جانبه استضاف بيت التمويل الكويتي طلبة جامعتي لا تروب وسوينبورن الأستراليتين ليستعرضوا إنجازات البنك في مجال العمل وفقاً لأحكام الشريعة، مع الاطلاع على أحدث المنتجات المالية.

ولم تفوت ماليزيا الفرصة حيث أوفد البنك المركزي "بنك نيجارا" عدداً من خبراء التمويل الإسلامي للقيام بجولة ترويجية في أستراليا لتعزيز التعاون في مجال التمويل المطابق للشريعة. واهتم الوفد الماليزي بإجراء محادثات مع معاهد أسترالية للتعليم العالي للنظر في إمكانية التعاون بين الجانبين. كما شملت الجولة اجتماعات مع الهيئات التنظيمية، والسلطات، والجماعات المالية والمهنية الأسترالية المهتمة بالتمويل الإسلامي.

الأكثر قراءة