كردستان نموذجا لعصر الدويلات

في الثاني عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي وقف مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان شبه المستقل ليلقي قنبلة في الجلسة الافتتاحية للجمعية العمومية الثالثة عشرة لحزبه ــ الحزب الكردي الديمقراطي في العاصمة أربيل. وقال بالحرف الواحد: ''إن الشعب الكردي له حق تقرير المصير، وأضاف أن الشخصية الكردية لمدينة كركوك ليست محل تفاوض'' ولم يقدم الرئيس العراقي أي رد فعل، وكذلك رئيس الوزراء ورئيس البرلمان، وقد حضروا جميعا هذه الجلسة. ولكن يبدو أن هذه العاصفة السياسية في بدايتها وما زال أمامها الكثير.
والأكراد أمة سنية تتوزع على خمس دول هي بحسب الأعداد تركيا (19 مليونا) والعراق (ستة ملايين) وإيران (أربعة ملايين) وسورية (ثلاثة ملايين) وأذربيجان نحو (مليونين ونصف). وهناك حلم قديم ترنم به الملا مصطفى البرزاني الذي أشعل أكثر من حرب ضد الحكومة المركزية أثناء زعامة نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وشقيقه عبد الرحمن، وحكم البكر وصدام حسين. وأجرى اتصالات وثيقة مع إسرائيل لمساعدته في تحقيق حلم كردستان/ واستحال تحقيق الحلم لأن البلد الأكبر والأهم في هذا الصدد هو تركيا التي رفضت وما زالت ترفض فكرة قيام دولة للأكراد تقلب عليها الموازين.
غير أن الغزو الأمريكي للعراق بدأ يشي بمسبباته ومبرراته الحقيقية، لأن إصرار الولايات المتحدة على القيام بهذا الغزو كان عنيفا، ومنذ بدأت تكيل الاتهامات لنظام صدام حسين، كان من الواضح، أن لديها مخططا قوامه تفكيك الكيانات السياسية في المنطقة وفي إفريقيا. ولا جدال أنه من الصعب أن نعزل بين ما يجري في السودان ومصر والعراق ولبنان، فالصورة الواضحة أن الخرائط يجب أن ترسم من جديد، ولم لا؟ وقد تم رسم الخرائط الحالية في عهد الاستعمار بناء على مصلحة المستعمر، فالمستعمر الإنجليزي كان يعتقد أنه سيبقى في السودان إلى الأبد فعمل على توسيع رقعته، وكذلك فعل الفرنسيون في الجزائر، والبلجيك في الكونغو، وجاء المستعمر الجديد ليرسم خرائط جديدة حسب مصالحه.
ترى الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل أن الدويلات أسلس قيادا من الدول، فهي أصغر وأقل طموحا وأفقر وأضعف، وهي دائما في حاجة ماسة إلى ظهير أجنبي قوي وحليف اقتصادي يدعمها ضد شركائها السابقين على الأقل، وقد بدأت التجربة العراقية بمحاولة تقسيم البلاد إلى مناطق شيعة وسنة وأكراد، ثم التوجه إلى السودان لتقسيمه أسوة بما تم في إثيوبيا وفصل إريتريا عنها وحرمانها من الموانئ، حيث أصبحت دولة من أهم دول إفريقيا تاريخيا في وضع جغرافي محزن، وهو أمر مستهدف لتصبح لقمة سائغة للضغوط الأمريكية والإسرائيلية المتوقعة خاصة فيما يتعلق بالمياه ــ فهي أهم مصدر لمياه النيل (75 في المائة).
عودة إلى الأكراد لنرى مسعود برزاني يصف الأكراد بأنهم أمة متفردة وموحدة وأن حقهم في تقرير مصيرهم واضح وضوح الشمس لأنه يقوم على أساس اتفاقيات دولية تنص على أن جميع شعوب العالم لها هذا الحق. ومن ثم فإن الأولوية القصوى لحزبه هي العمل على تحقيق هذا الهدف.
وسرعان ما أعلن برهام صلاح رئيس وزراء الإقليم الكردي دعمه لما قاله برزاني، وبرهام صلاح هو أحد زعماء حزب الوحدة الوطنية الكردي الذي يترأسه جلال طالباني رئيس العراق الحالي. ويتم منح المناصب المهمة على الأساس العرقي الديني على النموذج اللبناني، فالرئيس كردي ورئيس الوزراء شيعي ورئيس البرلمان سني. وقال برهام صلاح إن إعلان وحدة الأراضي الكردية تحت حكومة واحدة هو تنفيذ للدستور العراقي الذي يقول إن وحدة العراق مرهونة برغبة المكونات العرقية للشعب العراقي, وهذا يعني أن أي عنصر من العناصر أو عرقية من العرقيات لا تريد أن تكون جزءا من العراق يمكنها الانفصال دستوريا. وتعالت أصوات قديمة تقول إن الحروب التي بدأت في الجبال منذ 1985 كانت ترمي إلى الانفصال, وإن الغزو الأمريكي اختصر لنا الطريق.
وتوالت صيحات التأييد من الفعاليات الثقافية والاقتصادية والسياسية الكردية. لقد أصبح واضحا أن الأكراد حصلوا على الضوء الأخضر للعمل على الاستقلال عن العراق, وبدأنا نسمع قصصا على غرار أن الأكراد تم ضمهم إلى العراق بقرار بريطاني، وأن الوقت قد حان للتحرر من هذا الوضع. وقال البعض إن 98.5 في المائة من الأكراد اختاروا الحكم الذاتي, بل إن الأقليات التي تعيش في الإقليم الكردي مثل المسيحيين ''ويطلق عليهم الآشوريين'' والتركمان بدأت تهتف وتصيح إلى جانب الأكراد طلبا للاستقلال. وقد أعلن سكرتير عام الحزب التركماني ''إننا معشر التركمان جزء من الشعب الكردي ولذلك فنحن نؤيد من كل قلوبنا إعلان الرئيس برزاني بشأن تحديد المصير, وكذلك قال الحزب الآشوري الذي يمثل المسيحيين إن للأكراد الحق في وطن مستقل.
هذه المظاهرة التي وقف فيها التركمان والآشوريون لتأييد الانفصال تشي بالضغوط الأمريكية, فالأسلوب الأمريكي يعتمد على الضغط بالفكرة وإلزام كل حزب أو عرقية أو جهة سياسية صغيرة بأن تردد إرادته, ومنذ متى كان التركمان والآشوريون إخوة للأكراد؟
لكن الأوركسترا الانفصالي يعزف ألحانه بإشارات المايسترو الأمريكي الذي يقود الألحان نفسها في السودان في الوقت الراهن.
ورغم أني لم أحدد موقفا بعد من أحداث الإسكندرية فيما يتعلق بالفاعل لأنه لم يضبط بعد, إلا أنني أميل إلى غالبية الآراء المتداولة بأن ما يجري مقدمة لوقيعة قد تؤدي إلى حرب أهلية أو على الأقل إلى مطالبة الأقباط بالاستقواء بالغرب خاصة أمريكا لتنفيذ برامج في غاية الخطورة, ويدعم هذه الفكرة ما يجري في السودان والعراق في آن واحد.
وصرح أحمد شلبي رئيس المؤتمر الوطني وأول من مطالب أمريكا بإسقاط صدام بأن المقابلات التي تمت بين معارضي صدام في فيينا اتفقت على قبول حق الأكراد في تقرير المصير.
والغريب أن كل الفعاليات السياسية في العراق التزمت الصمت, فيما عدا إياد علاوي الذي أعلن أسفه وطالب الأكراد بالبعد عن هذه التصريحات التي تدمر وحدة البلاد, وقال إن قضية كركوك خط أحمر وعلى الجميع احترام ما تم الاتفاق عليه. والعجيب أن المالكي لم ينطق حرفا واحدا يستنكر النوايا الكردية وهو ما يؤكد ضلوع أمريكا التي يعمل المالكي طوع بنانها.
ويأتي الاستنكار الأكبر للموقف الكردي الجديد من السنة ومن حزب البعث الذي أعلن أن إعلان برزاني هو استمرار للمد الأمريكي وتأكيد للعمالة وتأييد للاحتلال, حيث إن الاحتلال الأمريكي جاء لتقسيم العراق في نفس وقت تقسيم السودان الذي يتعرض لخطة إسرائيلية ـ أمريكية يبدو أنها في الطريق إلى النجاح بعد الاستفتاء الذي سيجري غدا.
ولا يمكن عزل إعلان الأكراد عن إعلان الولايات المتحدة أن منطقة كركوك منطقة محظورة على بغداد بعد حرب 1991, لكن هناك مشكلات عديدة أمام الأكراد مثل طردهم العرب وحصتهم في النفط ومطالبهم من الميزانية وردود الفعل الغاضبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي