التوسع في الإنفاق الحكومي جنب الاقتصاد الوطني تبعات الأزمة المالية العالمية
واصل الاقتصاد السعودي نموه بمعدلات إيجابية, رغم التراجع الحاد الذي شهدته الأسعار العالمية عما كانت عليه قبل تفجر الأزمة المالية العالمية في منتصف أيلول (سبتمبر) 2008، بسبب تضافر جهود السياستين المالية والنقدية من جهة، وانتهاج الحكومية السعودية لسياسة إنفاق توسعية من جهة أخرى، برصدها مبالغ ضخمة من الميزانية العامة للدولة، إضافة إلى اعتمادها مبلغ 400 مليار دولار خلال خمس سنوات، للصرف على مشاريع تنموية عملاقة، طالت جميع القطاعات والأنشطة الاقتصادية والتنموية دون استثناء، بالذات التي لها علاقة وارتباط مباشر بحياة الفرد السعودي ورفاهه الاجتماعي، وبما يكفل تعزيز مفهوم التنمية المستدامة في المملكة بمفهومها الواسع والشامل.
وجاءت أرقام الميزانية العامة للدولة للعام المالي الماضي (2010)، والعام المالي الجديد (2011)، لتؤكد حقيقة وحكمة التناغم بين السياستين المالية والنقدية اللتين تنتهجهما الحكومة السعودية للمحافظة على وتيرة نمو إيجابية للاقتصاد السعودي، بما في ذلك القطاعات والأنشطة الاقتصادية المختلفة، حيث على سبيل المثال، توقعت النتائج المالية للعام المالي الماضي، أن تصل الإيرادات الفعلية 735 مليار ريال، بزيادة تبلغ نسبتها (56 في المائة) على المقدر لها في الميزانية، منها (91 في المائة) تقريباً تمثل إيرادات بترولية، في حين توقعت النتائج أن تبلغ المصروفات الفعلية للعام نفسه، 626.5 مليار ريال، بزيادة تبلغ (16 في المائة) على ما صدرت به الميزانية، وبذلك يكون الفائض المتحقق في الميزانية 108.5 مليار ريال.
وتضمنت ميزانية الدولة للعام المالي الجديد (2011) حزمة من المشاريع التنموية الجديدة ومراحل إضافية لبعض المشاريع، التي سبق أن تم اعتمادها بقيمة إجمالية تبلغ نحو 256 مليار ريال، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، مشاريع تتعلق بالتحسين من البيئة التعليمية والصحية والاجتماعية، من خلال بناء عدد كبير من المدارس والمستشفيات والمراكز الاجتماعية، بما في ذلك استكمال عدد لا بأس به من المشاريع ذات العلاقة بالتنمية، إضافة إلى تضمن الميزانية مشاريع تتعلق بتوفير مياه الشرب وتعزيز مصادر المياه، وتوفير خدمات الصرف الصحي، والسدود وحفر الآبار، واستبدال شبكات المياه والصرف الصحي.
واستلزمت السياسة الاقتصادية التوسعية التي تنتهجها المملكة، حشد الطاقات وتضافر الجهود المالية والبشرية منذ انطلاقة أولى خطط التنمية الخمسية في عام 1970، للنهوض بمتطلبات التنمية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود، ومن هذا المنطلق، كان لصناديق التنمية المختلفة (صندوق التنمية العقارية، وصندوق التنمية الصناعية، والبنك السعودي للتسليف والادخار، وصندوق التنمية الزراعية، وصندوق الاستثمارات العامة وبرامج الإقراض الحكومي الأخرى) دور مهم في مساندة التنمية الاقتصادية التي تعيشها المملكة.
السوق المالية هي الأخرى كان لها دور ملموس وملحوظ، في مسيرة التنمية الاقتصادية والحضارية، التي تعيشها المملكة، حيث على سبيل المثال على امتداد العامين الماليين الماضيين 1430/1431 (2009) و1431/1432 (2010)، اتخذت هيئة السوق المالية عدداً من الخطوات الرامية إلى تنظيم طرح وتداول الأوراق المالية في السوق المالية وتطويرها، بما في ذلك تعزيز العدالة والشفافية ودرجات الإفصاح وحماية المستثمرين.
ففي مجال زيادة عمق السوق المالية وتوفير المزيد من الفرص الاستثمارية، وافقت الهيئة خلال العامين المذكورين على طرح أسهم 19 شركة للاكتتاب العام بمبلغ يقارب 30.4 مليار ريال، رخصت لـ 52 صندوقاً استثماريا، وأصدرت تراخيص لـ 18 شركة جديدة لمزاولة أعمال الأوراق المالية المختلفة، ليرتفع بذلك العدد الإجمالي للشركات المرخص لها بالتعامل في السوق إلى 124 شركة بنهاية عام 2010.
القطاع المصرفي السعودي، باعتباره عصب الاقتصاد وعموده الفقري، لم يكن غائباً مطلقاً عن مشوار ومسيرة التنمية الاقتصادية والحضارية، التي تعيشها المملكة، حيث كان له حضور قوي، ملحوظ وملموس في التعزيز من تلك المسيرة، وفي تحقيق أهداف وتوجهات خطط التنمية الخمسية المختلفة، منذ انطلاقة أولى تلك الخطط في عام 1970، ولا سيما في ظل استمرار البنوك في تدعيم رساميلها بين الحين والآخر، بهدف التمكن من مواصلة مساهمتها في التنمية، حيث على سبيل المثال ارتفع إجمالي رؤوس أموال المصارف واحتياطياتها من 43.5 مليار ريال في عام 2000 إلى ما يقارب 180 مليار ريال في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي.
كما قد أسهمت مؤسسة النقد العربي السعودي ''ساما'' بفاعلية في تعزيز وضع السيولة لدى المصارف المحلية، بغرض تمكينها من ممارسة دورها ووظائفها التنموية المختلفة في الاقتصاد والتنمية على الوجه المطلوب، وبالذات خلال الأزمة المالية العالمية، حيث على سبيل المثال من بين الإجراءات التي تبنتها المؤسسة للتعزيز من مستويات السيولة لدى البنوك ما يلي:
ـــ خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي على الودائع تحت الطلب من 13 في المائة إلى 10 في المائة في أيلول (سبتمبر) 2008، ومن ثم إلى 7 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، والإبقاء على نسبة الاحتياطي الإلزامي على الودائع الزمنية والادخارية عند مستوى 4 في المائة.
ـــ خفض معدل عائد اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو) إلى 5.5 في المائة في تشرين الأول (أكتوبر) 2008، وإلى 2 في المائة في كانون الثاني (يناير) 2009، كما قد تم خفض معدل عائد اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس على عدة مراحل من 2 في المائة إلى 0.25 في المائة.
ـــ إنشاء ودائع زمنية مع المصارف المحلية لمدد طويلة نسبياً نيابة عن الهيئات والمؤسسات الحكومية بالعملة المحلية والدولار الأمريكي.
ـــ خفض تسعيرة أذونات الخزانة في كانون الأول (ديسمبر) 2008 إلى 50 نقطة أساس دون سعر فائدة الإيداع ما بين البنوك، وتحديد سقف الإصدار بثلاثة مليارات ريال أسبوعيا.
ـــ القيام بإجراء عمليات مقايضة للدولار الأمريكي مقابل الريال مع البنوك المحلية، بهدف توفير النقد الأجنبي لها.
وجنبت حزمة التدابير والإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة السعودية خلال السنوات الماضية وبالذات خلال سنوات الأزمة المالية العالمية، دون أدنى شك الاقتصاد السعودي تبعات وتداعيات تلك الأزمة، وحافظت إلى حد كبير على وتيرة النمو، كما أن الاحتياطات المالية الكبيرة التي تمتلكها المملكة، حققت لها وسادة مالية وثيرة، تمكنها من اللجوء إليها وقت الحاجة خلال السنوات المقبلة في حالة ـــ لا سمح الله ـــ انخفاض أسعار النفط العالمية إلى مستويات متدنية، إضافة إلى أن تخفيض معدلات الدين العام إلى مستويات متدنية للغاية، سيمكن الحكومة من الاستمرار في انتهاج سياسة إنفاق توسعية خلال السنوات المقبلة، بالشكل الذي يمكن الاقتصاد من المحافظة على معدلات نمو إيجابية.
ويتوقع لتلك التدابير والإجراءات أن تسهم بفاعلية في الدفع بجهود الدولة قدماً إلى الأمام، الرامية إلى تحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة للاقتصاد الوطني خلال سنوات الخطة الخمسية التاسعة، وتحقيق أهدافها التنموية المبنية على خمسة محاور رئيسة، أولها: تعزيز وتكثيف جهود تحسين مستوى معيشة المواطن والارتقاء بنوعية حياته، وثانيها: تنمية القوى البشرية الوطنية وزيادة توظيفها، وثالثها: تحقيق التنمية المتوازنة بين المناطق، ورابعها: استمرار التطوير الهيكلي للاقتصاد السعودي من خلال تعميق عملية التنويع الأفقي والرأسي لقاعدته الإنتاجية، وأخيراً خامسها: الرفع من القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني والمنتجات الوطنية.
ويتوقع أيضاً لتلك الإجراءات والتدابير، أن تعزز من وضع البيئة الاستثمارية في المملكة، التي حققت وفقاً للتقرير الصادر عن البنك الدولي عن مناخ الاستثمار لعام 2011، مركزاً متقدماً للغاية على المستوى الدولي، حيث احتلت المملكة المرتبة الحادية عشرة من بين 133 دولة، محققة بذلك تقدماً من المركز الثالث عشر الذي حققته في عام 2010.