حضارة مدننا ومدى تحضرنا
هل نحن على مستوى من التحضر الذي يتماشى مع مدننا وتطورها المذهل للسنوات الأخيرة؟ فالملاحظ أن مدننا أصبحت تنافس مدن العالم الأخرى، بينما لا نزال كمواطنين ينقصنا بعض التحضر، خاصة في تعاملنا الحضاري مع المدن وأنظمتها وجعلها تخدمنا بالطريقة الصحيحة ليعم الخير والفائدة على الجميع، فنتعاون مع بعضنا ونساعد الآخرين، وقد سبق أن أشرت في موضوع سابق إلى مدى ما تعكسه طريقة القيادة لدينا من أنانية وحب للنفس وأحيانا مضايقة الآخرين. إن المدن لا تتحضر بدون تحضر وتعاون أبنائها، فعلى سبيل المثال نجد أن الأمانات مسؤولة عن نظافة المدينة ولكن لو تأخرت الأمانة يوما عن جمع النفايات هل نستطيع أن نتعاون مع بعضنا لتنظيف على الأقل مقدمة منازلنا. ولو حتى قام السائق أو الخادمة بذلك. الأمانات تقوم بجمع النفايات ولكن هل يمكن أن نخفف من كمية النفايات التي نرميها والتي أساسها الإسراف الزائد؟ لو تعطلت إشارة المرور هل سنتساعد ونسمح لمن وصل أولا أن يأخذ حقه ويسير قبلنا أم أننا جميعنا باشاوات وكل يرى أنه الأهم؟ لو علمنا أن الدولة تصرف المليارات على توفير الماء والكهرباء فهل سنتساعد على التوفير في الاستخدام؟ أمور كثيرة تثبت أننا ما زلنا مجتمعا غير حضاري، والحضارة لن تأتينا أو تقبل علينا إذا نحن لم نرحب بها.
الإنسان المتحضر والمدن الحديثة أو العصرية والعصرنة، هي مسميات لها عمقها النظري والتحليلي، فالحداثة للمدن كانت موضوعا مهما لتقصي مدى تطور وتحول المدن والمجتمعات على مدى العصور من المرحلة البدائية أو الريفية قبل الحداثة ثم إلى المرحلة الصناعية ثم الحديثة، ومدى تحضر الإنسان فيها ومعها ومدى تقبله للتغير للأفضل، وبدون الإنسان لا يمكن للمدن أن تتحضر أو أن تكون لدينا حضارة، وهي تمثل الفترة ما بين 1920م وحتى عصرنا هذا. بينما العصرية هي مسمى يطلق على مدى تقدم المدن مقارنة بما هو متواجد من مظاهر وتقنيات حديثة في فترة معينة وللوقت نفسه الذي تقارن فيه المدن، فالأولى تنظر إلى المدن والمجتمع وتمشيهما معا ومدى تعاضدهما للتغير إلى الحداثة أو تغير الجوهر والمحتوى، بينما الأخرى تنظر أكثر إلى المدينة والاقتصاد ومدى تغير المظهر العام للمدينة وجمال الفراغات العمرانية والمباني، ويبقى الإنسان داخلها حتى ولو لم يتحضر، فبناء المدن يستغرق سنوات بينما الإنسان يحتاج إلى عقود وأجيال. يمكن بناء مبنى في سنتين أو مدينة متكاملة في خمس إلى عشر سنوات، ولكن العقل البشري يحتاج إلى عشرات السنين. ليس ذلك فقط بل إنه يحتاج إلى التخلص من ترسبات الجيل الذي يعايشه، وذلك يحتاج إلى وقت أكبر.
وأخيرا بدأ الربط بين الحداثة والعصرنة للمدن فيما يسمى بالمدن الخضراء والذكية التي تطبق التقنيات الحديثة وفي الوقت نفسه توفر وتخفف من الانبعاث الحراري، وهو ما يسمى بمدن ومبان صديقة للبيئة، وهو أحد أهم المحاور التي تسير عليها الأعمال البلدية. فالبلديات تعمل على المظهر العام للمدن الذي أساسه التخطيط العام والشامل على المستوى المحلي من التخطيط، بينما هي تنفذ ما يملى عليها من سياسات على المستوى الوطني والتي عادة ترتبط بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما تمليه تلك السياسات والاستراتيجيات عادة يؤثر في الشكل العام للمدن ومدى عصرنتها، ولكن حتى المدن الذكية تحتاج إلى مجتمع ذكي ومثقف وواع للاستفادة من تلك المدن، وكلما تعاون الإنسان معها وأعطى ما لديه من تفهم وتعاون سارا معاً للوصول إلى مراحل متقدمة من الحضارة والمدنية.
هل هناك علاقة بين أخلاقياتنا ومدى تحضرنا مع الطريقة التي نقود بها سياراتنا في الشوارع العامة؟ وهل هناك علاقة بين الفوضى والتهور وحب التملك وكأن الطريق ملك لبعضنا أو أنه ورثه من والديه وبين حب لأخيك ما تحب لنفسك؟ فعلا أرى أن قيادة السيارات كشفت أخلاقيات الكثير منا، فما إن تؤشر لتغير مسارك في الطريق إلا وتجد من هو خلفك بمسافات بعيدة يؤشر ويكبس لك الأنوار العالية والفلاشات، وكأنه يقول انتظر لا تغير مسارك حتى أصل وبعد ذلك يمكنك ذلك، وكأنك ستعتدي على ملكه، حتى لو اعترضك لا قدر الله شخص أو عائق وأردت أن تتجنب الاصطدام به فلن تجد من يسمح لك بتغير مسارك أو أن يخفف سرعته ليفسح لك المجال. مع أنني أجزم أن الكثيرين لديهم حيز من الوقت أو ثوان حتى ليساعدك، والبعض لا يحترم إعطاءك حق الطريق. فلو كان على الدوار فإنه يرى أن الأحقية له ويسب ويلعن من قد يدخل عليه، وإن كان ليس على الدوار ويود الدخول للدوار فإنه يرى أن الأحقية له هو وليس لمن داخل الدوار. سبق أن أشرت إلى الكثير من الممارسات الخاطئة في مقالات سابقة أوضحت فيها قلة الوعي المروري أو تطنيشنا الأنظمة والأخلاقيات، فتجد من يسبح بسيارته وكأنها سفينة، ويخرج من مسار لآخر وبدون إشارة أو يسير فوق الخط الأوسط طمعا حتى لا يستفيد منه أحد، وفي الوقت نفسه أرى ظاهرة معاكسة وهي النفاق الاجتماعي الذي نعيشه في الوقت الذي نعتقد فيه أننا أفضل البشر وفي دولة الإنسانية، والمشهد الذي يزعجني هو رؤية مجموعة من المنافقين عند أبواب الخروج من قاعة مناسبات أو طعام عشاء وهم يلزمون ويحلفون على بعضهم ويؤثرون على أنفسهم هذا الكرم العظيم بالسماح للآخرين بالخروج قبلهم، ثم تجد المنافقين أنفسهم بعد أمتار من الموقع على الطريق أو عند الإشارة وهم يسابقونك ويتخطونك بل قد يزاحمونك ويجعلونك تصدم بالآخرين.
الظاهرة الأسوأ هي الإسراف في المناسبات والولائم، حتى الفقير ينافس الغني. زواجات وحفلات تخرج واحتفالات كرم، وكلها ترمى في صناديق النفايات والتعب على الأمانة والخسارة على الدولة التي نحن منها، وما نوفره سيستفيد منه الآخرون الذين ينتظرون قروضهم للصندوق أو للحصول على مسكن أو لقمة عيش.
وبالنظر إلى مدننا نجد أنها فعلا وصلت إلى مرحلة متقدمة من الحضارة ويشهد بذلك القريب والبعيد، وتبرز العاصمة الرياض كأول مدينة عربية ذكية تطبق نظرية التطوير الشامل للأحياء والضواحي، حيث تشهد حاليا نهضة عقارية حقيقية هي نواة وبداية القفزة الهائلة للتطوير العقاري والحضاري التي ستنفجر والتي لم يشهدها تاريخ الاستثمار العقاري بعد والتي لا تقارن بالحقبة الماضية أو ما نسميه بالتطوير العقاري المتحفظ الذي كان يقوده التجار التقليديون للعقارات، التي ينامون عليها حتى يرتفع سعرها ثم يبيعونها دون أن يستفيد منهم أحد أو يضيفون شيئا للاقتصاد الوطني أو مؤسساته. إنها نهضة ومولد الطفرة العقارية الحديثة التي تقوم على أسس التطوير الشامل والمتكامل للأحياء والضواحي وعلى تكنولوجيا البناء والمباني والمدن الذكية وفق نسيج متناسق مع بعضه بعضا وموحد السمات والتفاصيل لأحياء متجانسة ومترابطة في نسيج حضاري رائع يعكس الانسيابية العمرانية والتراثية، وهي رؤية بعيدة المدى وطموحات لراعي نهضتها سمو أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز الذي كان ولا يزال المتابع الحريص وراء عجلة القيادة للنمو والتطوير وفق أسس راسخة، أولها الحرص على التفعيل والاستفادة من القاعدة الاقتصادية وتنويعها للبحث عن موارد جديدة ولجذب استثمارات عالمية لمدننا، وإشرافه الشخصي على مجريات الأمور من خلال رئاسته الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وآخرها ما تم استشرافه من مشاريع حديثة هي أسس تشكيل النظرة المستقبلية لمدينة الرياض، وهي لمسات تركت آثارها ليس على المستوى المحلي لمنطقة الرياض فحسب، بل على المستويين الإقليمي والوطني، والتي ستكتمل بعد توفير البيئة القانونية والتنظيمية من سن القوانين لحماية المستثمرين وإنهاء الموافقة على نظام الرهن العقاري والهيئة العليا للعقار، وهي رؤية تحاول تسخير قدر كبير من التخطيط والتنسيق والحذر لعدم تضارب التوجه الذي ستمليه الاستثمارات في المدن الاقتصادية على توجه نمو مدننا واتزان تطوير بنيتها التحتية وحماية استثمارات العقاريين في المدن والضواحي الحالية والمخططات التقليدية.، ولا توجد مقاييس أو معايير موحدة لمقارنة أو قياس مدى تحضر المدن ولكن هناك مقاييس ومعايير نعرفها لمعرفة تحضر الإنسان، وتوجد للمدن معايير وبعضها توجهات وآراء شخصية لبعض المهنيين والعامة من المجتمع للنظر إلى مكونات المدن من مبان وفراغات عمرانية، فالبعض ينظر إلى المدن التي تغلب عليها المباني الشاهقة أو ناطحات السحاب على أنها مدن حديثة والآخر ينظر إلى مدى تسخير التقنيات الحديثة للمدن، في حين أن هناك آخرين ينظرون إلى مدى جمال المدينة ومظهرها الخارجي ومدى تناسقه بغض النظر عن علو المباني أو تقنياتها.
لكن المعيار الحقيقي للتحضر هو مدى تماشي تحضر وتمدن الإنسان مع تحضر المدن، وكلما كان الإنسان واعيا ومثقفا ومتعاونا ومحبا لأخيه كان إنسانا ذكيا ويستحق أن نطلق عليه الرجل المتحضر الذكي والذي خلد تلك المدن الذكية، وصدق الحديث: ''لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه''.