الخسائر الاقتصادية من أخطاء الأجهزة الحكومية وآليات المعالجة

الوضع الحالي في مدينة جدة بعد هطول الأمطار والخسائر الاقتصادية، يعيد إلى الأذهان كارثة جدة السابقة، التي أعلن خادم الحرمين الشريفين عن تكوين لجنة تحقيق ومحاسبة لمن تسبب في هذه الجريمة, والجميع يتطلع إلى النتائج، وإلى تقديم المتسببين للمحاكمة وبأسرع وقت لتكون رادعا لغيرهم من التجاوز وهدر المال العام. أبرزت هذه الكارثة وتكرارها قضية خطيرة تتمثل في الأخطاء الحكومية والتكاليف الاقتصادية والاجتماعية التي يتحملها المجتمع جميعه بسبب مثل هذه الأخطاء. التكاليف المباشرة وغير المباشرة بسبب أخطاء الأجهزة المعنية في جدة هائلة, فالتلف الذي لحق بالممتلكات الخاصة، وتعطل مصالح المواطنين, وأشد من ذلك حالة الخوف والهلع التي عاشتها الأهالي مع أطفالهم خلال هذه الفترة، تمثل خسائر فادحة لا تعوضها الأموال. كما أن شلل الحركة الاقتصادية في جدة يمثل خسارة اقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي تؤثر في نمو الاقتصاد الوطني سلبا.
وحادثة جدة مثال وليست استثناء، فالمتوقع أن السبب الذي أدى إلى ما حدث في جدة هو جزء من تركيبة بعض الأجهزة الحكومية, التي أسهمت في نشوء المشكلة، وتحتاج إلى إصلاح الخلل في ضوء توجيه خادم الحرمين الشريفين الذي أعلنه العام الماضي. وعلى خلفية ما حدث وتكرار ذلك، فإن المتوقع محاسبة المتسببين، لعجزهم وعدم قدرتهم على معالجة الخلل، ولعدم قدرتهم على تحقيق طموح خادم الحرمين الشريفين في الإصلاح.
الأجهزة الحكومية بجميع مستوياتها أجيرة لدى المجتمع لتقديم خدمة عامة, وفي المقابل المجتمع يدفع لها الرواتب من المال العام، وبغياب المراقبة الدقيقة والمحاسبة، فإن المجتمع يتحمل خسائر مباشرة وغير مباشرة. على الرغم من أن هذه الأجهزة هي لخدمة المجتمع وتحقيق التنمية المستدامة التي يطمح إليها أفراد المجتمع وتدفع لهم الرواتب مقابل عملهم، إلا أن بعض هذه الأجهزة تدمر التنمية وبالتالي استقرار المجتمع الاقتصادي والاجتماعي بالمال العام, الذي هو حق للمواطنين. إضافة إلى ما سبق فإن ما تقوم به بعض هذه الأجهزة يدفع إلى خسائر حقيقية مباشرة يتحملها المواطن في أمواله الخاصة, إضافة إلى تعطل التنمية، وتأثير ذلك في النمو الاقتصادي للقطاع غير النفطي، وارتفاع التكاليف الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي. وتكبد المجتمع من جراء أخطاء هذه الأجهزة خسائر ضخمة تكررت على الرغم من إعلان الجهات الرسمية أنه تمت المعالجة بالكامل. إن ما حدث شاهد على غياب الرقابة والمحاسبة للأجهزة الحكومية، وأمان العاملين بجميع مستوياتهم من ملاحقة القانون.
والوضع القائم يطرح مجموعة من الأسئلة, التي من أهمها: من المسؤول عن هذه التكاليف؟ من يعوض الخسائر المباشرة وغير المباشرة التي تكبدها الاقتصاد والأفراد والشركات والاقتصاد المحلي؟ ما آليات المعالجة في الأجلين القصير والطويل؟
إن آلية المعالجة في الأجل القصير تحتم نشر نتائج التحقيق السابق الذي أعلن الملك عبد الله عن إنشاء لجنة تقصي للحقائق، وتقديم المتسبب مهما كان منصبه أو مكانته للمحاكمة, لأن ذلك حق عام، كما يجب أن يحقق في سبب عدم المعالجة كما كانت متوقعة، ومحاسبة المقصرين علنا، وتحميل المقصرين تكاليف تقصيرهم، وتعويض المتضررين.
أما في الأجل الطويل، ولمعالجة هذا الخلل الهائل, الذي هو دليل صارخ على ضعف التنمية الحقيقية واستشراء الفساد في أروقة بعض الأجهزة الحكومية, الذي يجب أن يعالج بأسرع وقت ممكن لتحقيق التنمية المستدامة من خلال الرقابة الاجتماعية على أعمالها. فغياب الرقابة الاجتماعية على أداء هذه الأجهزة، وتفردها بالعمل دون وجود رادع، كبد المجتمع جميعا تكاليف باهظة. هذا الوضع يدعو إلى إعادة التفكير في الآلية التي تعمل فيها الأجهزة الحكومية، وأهمية وجود رقابة دقيقة من مؤسسات القطاع الثالث (العمل التطوعي) من دون تدخل حكومي. وأقترح في هذا الخصوص إنشاء هيئات غير ربحية في كل مدينة ومنطقة من قبل الأهالي ودون تدخل حكومي، على أن تمول ميزانيتها من ميزانية الحكومة والتبرعات والهبات، ويشارك الأهالي فيها، وتكون أعمالها معلنة للجميع، ويحق لأي مواطن المشاركة والتبليغ عن أخطاء للأجهزة الحكومية أو فسادها، على أن تقدم تقريرها وملاحظاتها لخادم الحرمين الشريفين مباشرة في نهاية كل سنة. ويحق لهذه الهيئات رفع قضايا أمام القضاء مباشرة من دون إذن حكومي، على الجهات التي تتقاعس عن أداء دورها، أو التي يثبت فسادها وعدم قيامها بدورها الحقيقي. ولضمان هذه الهيئات مفتوحة للجميع وغير محتكرة ويحق لكل مواطن رفع قضيته على الأجهزة الحكومية من خلالها. إن إنشاء مثل هذه الآلية سيسهم في المراقبة الجماعية المنظمة على أداء الأجهزة الحكومية، ويصبح المجتمع كله عينا للملك على أداء هذه الأجهزة لتحقيق التنمية الحقيقية التي يطمح إليها الجميع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي