مربع الشر: البطالة .. الفقر .. الفساد .. والتنمية اللامتوازنة
ما حدث في تونس يستحق أن يطلق عليه بالظاهرة الاجتماعية السياسية؛ لأن الأمور الاجتماعية كان لها الدور الأكبر في انقلاب الناس على النظام. فبعض الأنظمة تتوهم أن قدرتها على استلاب الدولة والسيطرة على مؤسساتها واحتكارها لصناعة القرار على كافة المستويات يعطيها الحق ويمنحها الغطاء الشرعي أو القانوني على استلاب المجتمع والتحكم في جميع مفاصله. فما دفع الشعب التونسي إلى الخروج في الشوارع هو إحساسه القوي بأن عليه أن يستثمر اللحظة الراهنة والظروف التي تولدت من غير إرادة سياسية؛ لكي يستعيد نفسه ويحرر إرادته من سلطة النظام. فطبيعة تواجد الناس في الشوارع ومن خلال أشكال تجمعهم ونوع الشعارات التي يرفعونها كانت لا تعبر عن مظاهرات سياسية أو حزبية منظمة بقدر ما كانت تعبر عن شكل من أشكال الفرح والسرور بالخروج من سجن النظام، فلقد كان هناك إحساس تقرأه بوضوح في وجوه الناس بأن هذا اليوم هو يوم فرح ولحظة الشعور بالراحة؛ لأن المجتمع كله كان في السجن وليس فئة المعارضين فقط.
لا نريد أن نتحدث عن موضوع الشر في حياتنا كبشر،، فهناك من يعتقد أن الشر متأصل في نفوس الناس؛ ومن ذلك تأتي حاجة المجتمعات البشرية إلى القانون والنظام لكي يحمي المجتمع نفسه من ظهور هذا الشر وخروجه على شكل أفعال وممارسات، وهناك من يرفض هذه المقولة ويؤمن بأن الإنسان مجبول على حب الخير؛ فالخير هو الأصل وإن الفطرة الإنسانية التي عقدت وتكونت بنفحة ربانية هي كلها خير ولا وجود للشر فيها، لكن المشكلة أن هذا الخير وهذه الفطرة الإنسانية السليمة مغروزة في أعماق الإنسان، فهي طبقة عميقة غاية العمق في النفس الإنسانية. والوصول إلى هذا الخير وتفكيك الحجب وإزالتها التي تحجب نور هذه الفطرة من أن يطل نورها على حياة الإنسان لكي يستنير بها هو عمل شاق وصعب ومرهق للإنسان؛ لأن في طريقه عقبات وطبقات تدفع بالإنسان وتغريه بممارسة الشر وعندها يسقط الإنسان في دائرة الشر، وبالتالي لا يخرج منه إلا شر. فالوصول إلى الفطرة الإنسانية والخير المتأصل في داخل النفس الإنسانية هو فعلا في حاجة إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، كما أشار إلى ذلك نبينا الكريم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم. فهو جهاد يشتبك وما أكثر ما يشتبك به مع طبقات الشر الموجودة في النفس الإنسانية والتي تقف في طريقه للالتحام بفطرته الإنسانية وعندئذ يظهر الخير في حياة الإنسان بمقدار قربه من هذه الفطرة (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ).
ولكن ما أريد الوصول إليه في الحديث عن موضوع الشر عند الإنسان هو ارتباط الشر بالألم عند الإنسان، فالشر إن كان يمارسه الإنسان على نفسه أو يمارسه الآخرون عليه ينتج ألما لذلك الإنسان، ومقدار هذا الألم يرتبط بمقدار الشر ونوعه، وقد يصل هذا الألم إلى حدود قد يصعب على الإنسان نفسه السيطرة عليها. فما حدث للشاب التونسي محمد البوعزيزي من إحراق نفسه وتحول هذا الحدث إلى شرارة أشعلت مشاعر التونسيين ودفعتهم إلى الخروج إلى الشوارع، هو حدث من الضروري أن نفهمه وأن نحلله في إطار ارتباط الشر بالألم، صحيح أن الانتحار وقتل الإنسان المتعمد لنفسه هو ممارسة مرفوضة على المستويين الإنساني والديني، لكن علينا أيضا أن نهتم ونحلل الظروف والأسباب التي أشعلت وأججت نار الألم في داخل نفس هذا الإنسان، فعندما صفعت الشرطية التونسية وجه هذا الشاب الجامعي العاطل عن العمل والذي لم يجد إلا بسطة خضراوات بسيطة يرتزق منها ويحفظ بها كرامته، هذه الصفعة أحدثت لهذا الإنسان ألما شديدا جدا؛ فسرى هذا الألم في داخل نفسه حتى لامس موضع الكرامة المتموضع في فطرته ليرتد هذا الألم نارا يحترق بها الجسد بعد أن احترقت النفس بأكملها. فالشر هو الذي يشعل النار في النفوس، وقد لا تكتفي هذه النار بحرق صاحبها؛ لأنها قد تمتد إلى أبعد من ذلك، وقد تجد هذه النار من يستخدمها ويوظفها لحرق المجتمع بأكمله. فالشر ينتج ألما إنسانيا، وهذا الألم يشعل نارا، وهذه النار إما يؤخذ منها قبس من نور يستهدي به للخروج من الألم، وإما أن تتحول هذه النار إلى محرقة يحترق بها الإنسان كفرد أو كمجتمع.
وإذا كان للشر مظاهر متعددة، فإن أكثر ما يخاف منه المجتمع هو أن يعيش في مربع أضلاعه تتمثل في البطالة والفقر والفساد وسوء التنمية وعدم توازنها، ووجوه الشر هذه متساوية في الأهمية، كما هي أضلاع المربع، وكل واحد منها ينتج مقدارا لا حدود له من الألم الإنساني، وإن تجفيف منابع الشر هذه هي بالتأكيد متطلبات إنسانية لا غنى عنها لتنمية المجتمع والارتقاء به ماديا وأخلاقيا. لنقف قليلا وبشكل موجز مع كل ضلع من هذه الأضلاع الأربعة.
1- البطالة: كل المشاكل تبتدئ بالبطالة وارتفاع نسب البطالة في أي مجتمع يعني وجود أزمة في ذلك المجتمع وليس بالضرورة أن تكون هذه الأزمة كلها اقتصادية. فالتعليم الذي لا تتواكب مخرجاته مع متطلبات التنمية سينتج أخطر أنواع البطالة وأشدها ضررا على المجتمع وهي بطالة المتعلمين. وقد يكون هناك تطور اقتصادي، لكن هناك سوء إدارة لهذا التطور وبالتالي يكون هناك تطور اقتصادي لا ينتج فرص عمل لأفراد ذلك المجتمع، فعندما يكون اهتمام بتأسيس مصانع ذات منتجات متدنية القيمة والتقنية في مجتمع متعلم ومدرب؛ فإنك بهذا تتسبب في ارتفاع نسب البطالة في المجتمع ويكون الاستثمار في هذه المصانع هو استثمار غير مجدٍ اقتصاديا وغير نافع في توفير فرص وظيفية. ولعل أكثر موضوع له علاقة بالبطالة في المملكة هو موضوع السعودة، وما زال هذا الموضوع يراوح في مكانه، وبالتالي عندما نفشل في السعودة سنفشل حتما في معالجة البطالة.
2- الفقر: إن الفقر أمر لا يمكن القضاء عليه بالكامل، لكن عندما يتحول الفقر إلى ظاهرة فإن المجتمع واستقراره بالكامل سيتأثر به سلبا. ليس هناك خط واحد للفقر؛ لأن هذا له علاقة باقتصاد البلد ومستوى الحياة فيه. فنحن لا يمكن أن نحارب مشكلة الفقر ونحن نتعثر في تطبيق السعودة، ولا يمكن محاربة الفقر وهناك شريحة كبيرة من الموظفين الذين يعملون في وظائف مؤقتة وبرواتب متدنية. ومحاربة الفقر في حاجة إلى تعريف قانوني وتشريعي لخط الفقر؛ حتى يكون هناك تدخل لسد الفارق بين موارد الإنسان وما هو مطلوب ضمن خط الفقر؛ لأن العمل بالمطلق لا يعني بالضرورة أن الإنسان ليس بفقير، فربما أكثر الفقراء هم ممن يعملون، فهم يعملون وعندهم وظائف، لكن ما يحصلون عليه من هذه الوظائف قد لا تسد حاجاتهم الأساسية. ولا يمكن معالجة الفقر ونحن لا نحسب حساب التضخم في تعديل الرواتب والأجور عموما، خصوصا في الوقت الحاضر وهو الذي يشهد ارتفاعا كبيرا في الأسعار.
3- الفساد: هناك من ينظر إلى الفساد على أنه العقبة الكأداء في طريق تنمية الشعوب، فتقرير منظمة الأمم المتحدة يذكر أن نصيب العالم العربي من الفساد تقدر قيمته بأكثر من ثلاثمائة بليون دولار سنويا. ومحاربة الفساد يتطلب بيئة إدارية منضبطة ومنظمة وشفافة؛ لأن الفوضى بطبيعتها تنتج الفساد، وإن عدم الشفافية هي حُجُب يستتر خلفها الفساد. فاستحداث بيئة إدارية على درجة عالية من الضبط والاهتمام بالشفافية وإيجاد قوانين للمراقبة والمحاسبة كلها أبواب تسد على الفساد من أن يدخل وأن يتسرب لمكونات المجتمع، وأي تساهل في أي من هذه الجوانب يعني بالنتيجة السماح للفساد أن يتواجد.
4- التنمية غير المتوازنة: كل شيء غير متوازن ينتهي به الأمر إلى السقوط، فلا ينتظر من حالة عدم التوازن أن تنتج عملا مثمرا وإيجابيا. ومن المشاكل المهمة والحرجة التي تقع فيها التنمية هي في حركتها غير المتوازنة، فقد تتركز هذه التنمية في مناطق معينة ولا تعطي بالها إلى المناطق الأخرى، وعندها تتحول هذه المناطق المهشمة إلى مناطق غير مستقرة تهدد عموم التنمية في البلد، وقد يظهر عدم التوازن هذا في إعطاء الامتيازات والفرص إلى فئات معينة ومحددة على حساب الفئات الاجتماعية الأخرى، إما بسبب فوارق مناطقية أو دينية أو مذهبية، وهذا التمييز يخلق حالة من الألم يضعف من الانتماء الاجتماعي، وقد يتسبب في عدم الاستقرار. فاليوم ينادي العالم بأنه لكي تكون التنمية مستدامة فيجب أن تكون تنمية متوازنة وشاملة.
وأخيرا، فإن أي مجتمع قد يسقط في لحظة من الزمن في هذا المربع، مربع الشر، لكن المجتمع الحي هو من يستطيع أن يواجه نفسه وأن يكشف عن هذه المظاهر ويعترف بوجودها وأن يبادر في حلها. فإهمال هذه المظاهر والسماح لها بأن تترسخ وتطبق على المجتمع قد يوصل المجتمع إلى لحظة لا ينفع معها الاعتراف بها والإعلان عن النية في حلها، وهذا لعله الدرس المهم الذي قد يستخلص من الظاهرة التونسية.