ما أبعاد الانقسام السُني في لبنان؟
لبنان نموذج للتنوع السياسي بما لا يوجد له مثيل في العالم، فالمكونات السياسية لهذا القطر الغالي متباينة وتخضع لحسابات عديدة، بعضها متناقض وبعضها متناغم.
وبينما نتابع ممارسة ديمقراطية في إطار انتخابات سليمة ومقبولة، لا يخفى علينا أن البعد الطائفي هو الأكبر والأكثر هيمنة على العاطفة السياسية والعقل السياسي للبنان. منذ عام 1943 تم تحديد المناصب القيادية على أساس ما أعلن أنه يتواكب مع التعداد، وذلك بحصول المارونيين على منصب الرئيس وقائد الجيش، والسنة على منصب رئيس الوزراء، والشيعة على قيادة البرلمان.
ومع الممارسة الديمقراطية من خلال صناديق الانتخاب تحت مظلة الطائفية وما فرضته من ضرورات التوريث (وهي ممارسة غير ديمقراطية)، تقع لبنان بين فينة وأخرى في أتون أزمة أو فتنة أو اضطرابات ساخنة، فكل زعماء لبنان هم ورثة بيولوجيون لزعماء سابقين، وهم أيضا حراس على مكاسب الطائفة التي أكسبت وجودهم هذه المشروعية. فأولاد عبد الحميد كرامي رئيس الوزراء السني هم رشيد كرامي وعمر كرامي وكلاهما تولى الحكومة مرارا، وسعد الحريري يرث الراحل رفيق الحريري، وتوني فرنجية، هو ابن سليمان فرنجية، وداني شمعون ابن كميل شمعون، ووليد جنبلاط هو نجل كمال جنبلاط، وأمين الجميل هو شقيق الرئيس بشير الجميل وابن بيير الجميل زعيم الكتائب، إلى آخر هذه السلسلة الممتدة، مما يجعل الصراع في لبنان مزيجا من التناقضات الحزبية والعائلية وتحديات المصالح والحرص على ركوب موجات السلطة، لذلك لم يكن عجيبا أن تنشب حرب أهلية تستمر 15 عاما (1975 ــ 1990) دمرت هذا البلد الجميل، وليس من المستغرب دائما أن يقع لبنان فريسة لأزمات قد تمر عادية في بلاد أخرى، ولكنها تسلب الكثير من استقرار هذا البلد الذي يتمتع بوعي ورؤية يجعلنا نستغرب دائما كثرة الحفر التي يحفرها لنفسه.
آخر هذه الفتن هي الفتنة السنية، فبعد عدة أزمات حكومية استمرت المشاورات النيابية التي أعلن بعدها الرئيس ميشال سليمان أن رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي سيشكل الحكومة المقبلة، بعد أن نال تأييد البرلمان الذي يضم 128 مقعدا، وقد حصل ميقاتي على 68 صوتا، بينما حصل منافسه سعد الحريري رئيس حكومة تصريف الأعمال على 60 صوتا فقط، مما يخول ميقاتي تشكيل الحكومة، ما أجج حالة هائلة من التوتر عندما رفض أنصار الحريري ذلك وأشعلوا النار في سيارة قناة الجزيرة، وطفقوا في الطرقات يبدون احتجاجهم من خلال إطارات السيارات المشتعلة.
والسبب أن حكومة الحريري سقطت بعد استقالة 11 وزيرا بينهم عشرة يمثلون حزب الله، ولذلك يتهم أنصار الحريري الشيخ حسن نصر الله بأنه وراء الأزمة، والذي رد بأنه يسعى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني، وطالب بمنح حكومة ميقاتي ولو سنة واحدة ثم يحاكمها الشعب. كان محور المظاهرات هو التنديد بإبعاد الحريري عن رئاسة الحكومة والاتجاه لتسمية ميقاتي، الأمر الذي يعني فتنة سنية باعتبار منصب رئيس الوزراء من نصيب السنة تاريخيا.
هنا نتوقف أمام حدث نادر لأن الطائفة السنية ارتبط اسمها بصفة ''الكريمة''، لأنها حملت على كاهلها لواء الوطنية والعروبة ولم تتورط في النزاعات الطائفية التي يزخر بها تاريخ لبنان، مثل حرب الدروز والموارنة منذ القرن الماضي، كما لم تلوث أياديها بالدماء وكانت نموذجا لإنكار الذات عندما تنازلت مرارا عن مقاعد أو مناصب للطوائف الأصغر، كالأرمن والأرثوذوكس أو للشيعة حقنا للدماء وحفاظا على الوطن وتجنبا للانقسام.
ولا نبالغ إن قلنا إن الطائفة السنية في لبنان لم تسلك سلوك الطوائف، بل تصرفت دائما وكأنها الأم الحنون، ويكفي أن الطوائف الأخرى لم تضمر لها شرا كما كان الحال بينها.
كان المسيحيون يحتمون بالسنة لإنقاذهم من القتل، وعندما وقعت الحرب الأهلية عام 1975 فوجئ العالم بأن الطائفة الوحيدة التي لم تخزن الأسلحة وتجيش الجيوش هي السنة، وقام الفلسطينيون السنة بالدفاع عنهم أثناء الحرب الأهلية، وبعد الحرب لم تفكر السنة في الانتقام، وإنما صفحت ومدت يد التعاون من أجل الوطن. وقد تعرضت السنة لمحن عديدة عندما قتل رمزها الديني المفتي حسن خالد، وعندما قتل أحد كبار رموزها السياسية الرئيس رشيد كرامي، ولكنها لم تنجرف وراء شهوة الثأر.
اختلف الأمر كثيرا بعد اغتيال رفيق الحريري، وثارت نزعة جديدة تمثلت في الهجوم على سورية والمطالبة بمحاكمة مسؤوليها، ولكن سعد الحريري اعترف بخطأ هذا المنحى. وقد تعرض السنة مرارا لاتهامات باطلة مثل التحالف مع الفلسطينيين لأنهم سنة مثلهم، أو بأنهم ينافقون المسيحيين من أجل الحكم. والمتابع للتاريخ اللبناني ورؤساء وزراء لبنان منذ عهد عبد الحميد كرامي وعبد الله الباقي وصائب سلام ورشيد كرامي، يدرك دور التهدئة الذي لعبه هؤلاء في أجواء سياسية عاصفة، ما أوجد روحا تسامحية في فترات طويلة لدى المارونيين والشيعة. ولكن صدمة الحريري أسفرت عن تصدع السنة وانقسامها إلى فرق، فهناك المجموعة الدينية تحت قيادة مفتي الجمهورية والإخوان المسلمون وحزب التحرير والجماعات السلفية والإسلامية والأحباش وبعض التنظيمات السنية المسلحة كما ظهر في مخيم نهر البارد.
الصدمة نفسها أوجدت تشققات سياسية، فسعد الحريري حصل على 62 في المائة من أصوات السنة، وحصل منافسوه من السنة على 38 في المائة، بينما كان رفيق يهيمن على غالبية الأصوات. وقد جاء انهيار حكومة سعد الحريري دليلا على مدى الانقسام الذي تعانيه السنة اليوم، خاصة بعد الارتطام الشديد بين فريقي 14 و8 آذار (مارس). وبعد انهيار حكومة سعد الحريري، انضم نواب طرابلس أحمد كرامي ومحمد الصفدي وقاسم عبد العزيز إلى جانب نجيب ميقاتي، ما جلب لهم الاتهام بالخيانة من جانب معسكر سعد الحريري، والهجوم من جانب الطوائف الدينية المؤيدة للحريري. ويرى هؤلاء الطرابلسيون أنهم يحاولون إنقاذ لبنان من حريق هائل، وأن نجيب ميقاتي هو الرجل الأنسب ليقود لبنان إلى بر الأمان.
وتشهد الساحة اللبنانية الآن توترا شديدا محوره السنة، أما حزب الله فقد أعلن تأييده لنجيب ميقاتي، مع التأكيد على أنه ليس طالب وزارات، وإنما هو يسعى إلى الوصول إلى أكثر من صيغة تحول دون وقوع لبنان في فخ القوى الكبرى، خاصة أن لبنان اشتهر بأنه ساحة تعبث فيها عناصر غير لبنانية لتحقيق أهداف إقليمية ـــ وإسرائيل بالطبع ووراءها الولايات المتحدة واحدة من هذه القوى. ولعل تصدي حزب الله للأزمة ينبع من شعور بأن هناك محاولات للتضييق على الحزب في لبنان من خلال حكومة سعد الحريري، كما تقول مصادر حزب الله.
ويبذل حكماء السنة جهودهم لإعادة جو الأخوة والمودة إلى قيادات السنة، وإطفاء النيران التي شبت في هذه الطائفة الملتزمة.
والهدف هو العودة بالسنة إلى رئاسة حكومة مقبولة تستطيع أن تدير بلدا كثير العواصف. ويعتقد حكماء السنة أن استقرار لبنان مرتبط بشدة بتماسك السنة التي وقفت دائما في الملعب اللبناني صديقة للجميع، راغبة في العطاء، ورافضة للهيمنة، ولا خلاف على أن حجم الاضطرابات السائدة الآن يزيد على كل توقعات الساسة، والأسباب أتفه من أن توقع لبنان في شرك الفوضى. ولكن على لبنان أن يدرك دائما أنه مستهدف وعليه السعي لتنقية صفوفه حتى لا يحقق المندسون ما حرص عليه الأعداء.