اقتصاد إسلامي متكامل أم مجرد بنوك!

يظهر من الاجتماعات الاقتصادية المنعقدة حول العالم بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة الحاجة إلى بدائل، والبدائل المطروحة ليست بدائل لأنظمة اقتصادية قائمة وإنما هي عبارة عن حلول مشرذمة لبعض المشكلات المالية لا كلها، والسبب أن النظام الاقتصادي البديل لا وجود له حاليا على أرض الواقع ـــ وإن وُجد فإنه بحاجة إلى قرار سياسي لفرضه.

حاول السودان تطبيق النظام المالي الإسلامي متكاملا، والنتيجة غير المعلنة أن ذلك كان سببا لخلخلة سياسية لا قدرة له على مجابهتها. إذ جابه عملا منظما لتقويض هذه الجهود لأسباب نترك بحثها للمحللين السياسيين، ولكنه حاول فرض نظام اقتصادي إسلامي على البلاد من شمالها إلى جنوبها حتى وصلت التداعيات السياسية لأن يكون السودان الدولة الوحيدة التي سيتعامل بنكها المركزي مع نظامين ماليين مختلفين بعد أن كان عمله متمحورا على سياسة نقدية تتناسب مع الشريعة الإسلامية.

هذه التجربة وبالرغم من تبنيها النظام المالي الإسلامي إلا أنها لم تُدعّم بقصص نجاح طالت كافة أطياف الشعب بحيث وصلنا إلى حلول اقتصادية تؤدي إلى الرفاه المنشود الذي نتغنى به في زمن خامس الخلفاء الراشدين على سبيل المثال، بل بقي الفقر والبطالة بسبب عدم التكامل في طرح النموذج الاقتصادي الإسلامي، وأدى ذلك إلى عدم الوصول إلى النتائج المنشودة من عدالة النظام المالي في الإسلام. ذلك يعني بشكل أو بآخر أننا بحاجة فعلية إلى نضج الطروحات التي تقدم النظام الاقتصادي الإسلامي كواقع من الممكن تجريبه عمليا بصورة متكاملة.

وفي واقع الأمر النظام المالي الرأسمالي له حصانة سياسية ومؤسساتية، ولكن هل سيطول به الأمر؟ المعطيات تشير إلى أن استمراره في وضعه القائم مرهون ببقاء أهم مؤسسة فيه وهي البنوك، وفي حال انهيار هذه المؤسسة ستتقوض دعائمه وستكون المسألة مجرد وقت لنشهد تغيرا تاريخيا اقتصاديا. لذلك فإن معالم النظام الاقتصادي الإسلامي لها مقومات تؤيدها من مؤسسات ربحية ولا ربحية، إضافة إلى القواعد العقائدية والأخلاقية التي تحكم السلوك المؤسساتي والتعامل المالي.

إن النجاح النسبي للمؤسسات المالية الإسلامية في تخطي آثار الأزمة له أسباب يعود بعضها إلى محدودية الاقتراض بالمفهوم التقليدي لدى هذه المؤسسات، إضافة إلى الضمانات المتشددة في حال منحها للتمويل، وعليه فإنها تأثرت تأثرا محدودا لا لأنها مدعومة بفكر تكافلي، أو باحتياطيات كافية أو بتفهم كامل من المودعين بأنهم شركاء في الربح والخسارة وإنما لأنها في الأساس تعمل بتحفظ زائد.

من يتبنى النظام الاقتصادي الإسلامي عليه أن يبدأ بطرح الأنموذج المتكامل، والأنموذج المتكامل يبدأ نظريا ومن ثم تبدأ الممارسة التطبيقية. في واقعنا الحالي صناعة المال الإسلامي صناعة ربحية في أركانها الرئيسة ـــ المصارف الإسلامية وشركات التكافل ـــ إضافة إلى عناصر السوق المالية الإسلامية ـــ وإن كانت ضعيفة الحضور حاليا. غاب عن هذه العناصر المؤسسات اللاربحية كمؤسسات الزكاة والوقف ومراكز تجميع الصدقات، بالرغم من أن كلا من هذه المؤسسات سواء الربحية واللاربحية أساسها هو التعامل المالي، وكلا منها أيضا يعد نقطة لحشد الأموال ليصار إلى استغلالها بحسب الغايات الرئيسية للمؤسسة، إلا أن التكامل بين هذه المؤسسات مجتمعة غائب لغياب عنصر التخطيط التكاملي في الدولة، وللحصانة السياسية المحيطة بالأنظمة المالية الحالية. ذلك لا يعفي من يحمل هذا الفكر ومن يتبناه من أن يبدأ بخطوات تحضيرية ـــ ولو من الجانب النظري على الأقل ـــ لتحضير الأنموذج التطبيقي للمستقبل.

إن رسم المستقبل الاقتصادي في ظل مفاهيم التمويل الإسلامي ومبادئه، إضافة إلى الأبعاد الاقتصادية الكلية التي ينبني عليها فقه المعاملات المالية الإسلامية وأيضا فقه العبادات، من شأنه أن يكون نقطة بداية مشجعة.

نحن اليوم بحاجة لتجمع لمراكز بحثية حول العالم تبني الجانب النظري لهذا النظام في ظل المعطيات المعاصرة واستشراف المستقبل، وتعمل على وضع الخطة الاستراتيجية والعملية لخطوات بناء النظام بشكل متكامل وصالح للتطبيق، ولا يخفى أن هذا الجهد أكبر من أن يقوم به أفراد من هنا وهناك ـــ مع عدم إنكار أهمية الجهود الفردية، إلا أن الجهد المؤسساتي الجماعي من شأنه أن يختصر الوقت ويجمع الخبرات ويخرج بنتائج معززة بالثقة. لقد رُسمت في السابق خطط استراتيجية رئيسية لصناعة المال الإسلامية إلا أنها بقيت حبرا على ورق، واستجدت متغيرات ولم تتم دراستها وإعادة النظر فيها، بل بقيت حبرا على ورق يتباهى الموقعون عليها بأنهم أسهموا يوما في رسمها. ذلك مؤشر على أننا ما زلنا نسعى للظهور ـــ والظهور فقط ـــ على حساب مستقبل هذه الصناعة، بل هذا النظام الذي نؤمن بأحقيته في نيل فرصة للتطبيق ولكن بعد أن يكون جاهزا من منظور تطبيقي.

رجال الأعمال اليوم بدأوا بالدخول بشغف غير مسبوق إلى قطاعات السوق المالية الإسلامية ظنا منهم أن الحصة المالية المتنامية لهذا القطاع لا بد أن يكون لهم فيها نصيب ـــ ولا ننكر عليهم ذلك ـــ ولكن حتى نكون أعمدة بناء في هيكل صناعة المال الإسلامي علينا أن نفهم الحد الأدنى من فقه المعاملات المالية الإسلامية وعلاقته بالعبادات والعقيدة، واحتياجات المستقبل الاقتصادي للمنطقة، وذلك لرسم صورة متكاملة لهذا القطاع. وحتى نضمن معطيات نجاح هذا الطرح وتفوقه؛ على الطامعين فيه أن يدركوا أنه قطاع لا يهدف لمجرد ربح مغر بل, هو أخلاقيات وقيم أساسية لا يمكن أن ينفصل أحدها عن الآخر، وأنه المستقبل الأخلاقي لصناعة المال حول العالم >

***

تتقدم أسرة تحرير مجلة "المصرفية الإسلامية" للأستاذة خولة النوباني بالتهنئة والتبريك لحصولها على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي وكان عنوان الأطروحة" الصكوك الإسلامية بين الفقه والممارسة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي