هل يحتاج التمويل الإسلامي إلى إعادة تنظيم نفسه؟
سلطت محاضرة بعنوان "عالم التمويل الإسلامي الصغير"، الضوء على الطبيعة التي تتسم بالتخوف من الأخطاء ضمن الدراسات الشرعية وارتباط هذه الدراسات بالمصرفية الإسلامية. لذا من الجدير النظر إلى هذا العالم، والتساؤل عما إذا كانت طريقة تنظيمه حاليا تخدم مصالح المصرفية الإسلامية، وعن احتمالية حدوث تغير على المديين القصير والمتوسط
في مقابلة له عام 2010 مع "بلومبيرج"، أبان حسين حامد حسن ـــ عالم مصري بارز ـــ رئيس لجنة التنسيق الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية في الإمارات، أن الصناعة بحاجة للاستقرار كي تنمو، مشيرا إلى نضال البنوك في الإمارات للتعامل مع بعضها بعضا نظرا للاختلافات في التفسير الشرعي لهيكلة الصفقات. وإذا كانت هذه تشكل مشكلة في منطقة صغيرة جغرافيا لها سمات ثقافية ودينية مشتركة، فلا بد أن تتسع المشكلة بصورة كبيرة على أساس عالمي. ومن المشكلات الأساسية عدم وجود أنموذج واحد لطريقة تنظيم الرقابة الشرعية. فهناك مجلس استشاري شرعي على مستوى كل بلد وعدة مجالس شرعية على مستوى مؤسسي في بعض المناطق مثل ماليزيا وباكستان والسودان، وفي مناطق أخرى هناك مجالس استشارية شرعية على مستوى مؤسسي فقط، والأنموذج الثالث هو الاستعانة بخدمات خارجية للاستشارات الشرعية، بسبب نقص علماء الشريعة المؤهلين.
دور علماء الشريعة
وفقا لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، فإن المستشارين الشرعيين هم فقهاء متخصصون في معاملات الفقه والتمويل الإسلامي، تتمثل مهمتهم في توجيه واستعراض والإشراف على الأنشطة المتعلقة بالتمويل الإسلامي لضمان امتثالها للأحكام الشرعية. وتكون آراؤهم ملزمة في مجال إشرافهم. إلا أن التمويل الإسلامي هو جزء من صناعة مالية عالمية، وبالتالي يتنافس مع المؤسسات المالية التقليدية. لذا لعل من المستحسن أن يشمل تعريف الهيئة فقرة حول فهم الممارسات المالية الحديثة خارج حدود التمويل الإسلامي. ويقول الدكتور محمد لالدين، المدير التنفيذي لأكاديمية الشريعة الدولية للتمويل الإسلامي، إن علماء الشريعة "يجب أن يكونوا أكثر إيجابية وبحاجة للمساعدة من علماء مدربين جيدا وغيرهم من أصحاب المصلحة في الصناعة".
علماء الشريعة ـــ العرض والطلب
المشكلة هي أن هناك نقصاً في علماء الشريعة المؤهلين. فهناك 221 عالماً فقط في جميع أنحاء العالم لشغل 1054 منصباً في مجالس الإدارة، وتميل المؤسسات المالية الإسلامية لتوظيف علماء معروفين. ونتيجة لذلك يتم تعيين العلماء في عدة مجالس إدارة مما يثير قضية تضارب المصالح وعدم الاستجابة السريعة. وتؤدي حالات التأخير في إيصال منتجات وخدمات جديدة إلى السوق إلى فقدان المؤسسات المالية، سواء الإسلامية أو التقليدية، فرصة جني الفوائد المالية والسمعة الطيبة لكونها رائدة في السوق.
وإحدى الاستجابات هي الاستعانة بمصادر خارجية عن طريق إحالة المشكلات إلى شركات استشارية متخصصة في ابتكار المنتجات والخدمات، ثم الحصول على موافقة ثلاثة أو أربعة علماء في الشركة الاستشارية. ولا يعتقد المنتقدون أن هذه طريقة مناسبة للإشراف الشرعي. ويقول سمير العمد، مسؤول الامتثال للشريعة في البنك الإسلامي في بريطانيا: "شركات الاستشارات الشرعية الخارجية أقل فاعلية من المستشارين الشرعيين الداخليين، الذين يعرفون القضايا التي تواجهها مؤسساتهم، وبالتالي فإنهم أقدر على معالجتها". هل المشكلة حقا نقص علماء الشريعة المؤهلين في مجالس الإدارة؟ وجهة النظر البديلة هي أنه ليس هناك نقص حقيقي وأن المشكلة تكمن في رغبة المؤسسات المالية الإسلامية في تعيين علماء معروفين. ويقلل هذا عدد العلماء المتاحين ويحرم كثيرا منهم، خاصة الشباب الأكثر فهما للممارسات المالية الحديثة، من فرصة التوظيف في مجالس الإدارة واكتساب الخبرة اللازمة. ويعتقد الدكتور عظيم الدين سبحاني من جامعة عجمان، أن النقص حقيقة واقعة وستستمر على الأرجح، ويقول: "أبواب الدخول إلى هذه المجموعة إما مغلقة وإما أن معايير الدخول ليست محددة. وحين يتم تحديد المؤهلات لمنصب المستشار الشرعي، ليس هناك إشارة حول كيفية ترقية المستشار، إذا حدث ذلك، إلى عالِم. ولن يتحسن الوضع إذا لم تبدأ هيئة المحاسبة والمراجعة بتنظيم المهنة وتحديد معايير دخول موحدة وقابلة للتحقق".
تغيير القواعد
اتخذت بعض الدول خطوات من جانب واحد للحد من عدد المجالس التي يمكن أن يتعين فيها العالِم. فمثلا، ألزم البنك المركزي الماليزي العلماء بالتعيين في مجلس واحد فقط، ونتيجة لذلك لديه الآن أكثر من 100 عالم. ومن المثير للاهتمام أن ماليزيا بادرت بقبول العلماء من الإناث، فهناك 10 مستشارات يعملن في ماليزيا اليوم. ولكن ليس هناك ما يدل على حدوث هذا بعد في الشرق الأوسط الأكثر تحفظا.
ويكمن الأمل في توسيع نطاق إصلاح المجالس الشرعية في هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية في البحرين. وفي حين أن أحكامها غير ملزمة خارج البحرين، إلا أن كثيرا من الدول تتبع مبادئها التوجيهية، مثل لبنان وفرنسا وإندونيسيا والأردن والكويت وماليزيا وباكستان وقطر والسعودية وجنوب إفريقيا والسودان وسورية والإمارات العربية المتحدة.
وحاليا، تناقش الهيئة، التي هي أقدم هيئة لتحديد المعايير وأكثرها مصداقية، المبادئ التوجيهية التي ستحد من عدد مجالس الإدارة التي يمكن أن يخدم فيها العالم. وتناقش أيضا ما إذا كان يحق للعلماء امتلاك أسهم في المؤسسات التي يعملون في مجالس إدارتها ورواتبهم، وما إذا كان لهم دور مع الشركات الاستشارية الشرعية المرتبطة بالمؤسسات التي يخدمونها. وتنوي الهيئة تحديد المبادئ التوجيهية بحلول نهاية 2011.
إحدى المشكلات المحتملة هي أن نسبة كبيرة من مجلس الشريعة لهيئة المحاسبة والمراجعة هم أيضا أعضاء في مجالس الشريعة في المؤسسات المالية الإسلامية. ويقول سمير العمد: "أعتقد أنهم سيرقون إلى هذا التحدي ويسهلون التغييرات ثم ستحذو المؤسسات المالية الإسلامية حذوهم".
وحدد مجلس الخدمات المالية الإسلامية في كوالالمبور بعض المبادئ التوجيهية لمجالس الشريعة، وهي خطوة نحو تشجيع المؤسسات المالية الإسلامية على تعيين مجموعة متنوعة من العلماء. وتتطلب معاييره أن تضم مجالس الشريعة "ثلاثة أعضاء على الأقل، ربما تدربوا في مدارس فقهية مختلفة، ومزيج من الأعضاء بفترات خبرة مختلفة، وعند الاقتضاء، من جنسيات مختلفة." وإضافة إلى خبرتهم في الشريعة، يجب أن يملك أعضاء مجالس الشريعة المعرفة والخبرة بمجالات التجارة أو التمويل".
والسؤال المطروح هو ما إذا كانت سياسة العصا والجزرة هي الطريقة الأكثر فاعلية لإحداث التغيير. لا بد من تشجيع المؤسسات المالية الإسلامية على تعيين علماء أصغر سنا لمنحهم الفرصة لاكتساب الخبرة، ولكن يجب أن تكون مطمئنة إلى أن هذا لن يعرضها إلى مزيد من الأخطار.
ويقول الدكتور سلمان خان، رئيس مكتب الشريعة في أحد البنوك الخليجية: "العلماء الجدد الواعدون لا يحظون بفرصة كبيرة بما أنهم غير معروفين وفتاواهم أقل احتمالية لإقناع الناس بها.
وهناك أيضا إهمال متعمد لرعاية وإنتاج علماء جدد، وهو أمر ليس بالصعب. فكثير من المسلمين يتحدثون الإنجليزية ويحتاجون إلى فترة "اختبار" قصيرة في ظل عالم أكثر خبرة. إلا أنه لا يتم فعل ذلك حتى الآن لأن العلماء الذين يهيمنون على الصناعة ليسوا من مؤيدي هذه العملية، التي سيكون لها تأثير في المنافع والامتيازات التي يحصلون عليها حاليا".
ولعل أحد الحلول التي تستحق تجربتها هو مخطط يتم بموجبه تدريب العلماء الأصغر سنا على أيدي زملاء أعلى مكانة، يتمثل دورهم في التعليم والإشراف. وهذا بالطبع يفترض أن يكون لدى كبار العلماء الوقت للاضطلاع بهذا الدور، مما يعيدنا إلى مسألة الحد من عدد المجالس التي قد يخدم فيها العالِم.
من الواضح أن صناعة التمويل الإسلامي بحاجة إلى سياسة العصا والجزرة لإحداث تغيير حقيقي فاعل، ولكن مع النية الحسنة والحس السليم يمكن التوصل إلى ترتيب معقول فيما يتعلق بالمستشارين الشرعيين في المستقبل المنظور.
معايير عالمية
ويعيدنا هذا إلى تعليقات حسين حامد حسن التي بدأنا بها المقال، أي الاتفاق على معايير مقبولة عالميا تسمح للمؤسسات المالية الإسلامية التجارة بسهولة وصراحة عبر الحدود. وهذه قضية أكثر تعقيدا. فالإسلام، مثل عديد من النظم العقائدية الأخرى، ليس له وجه موحد لتقديمه إلى العالم، ولكنه الوحيد الذي يلزم المؤسسة المالية بوجود مجلس استشاري ديني، إلى جانب المجلس التنفيذي للتدقيق في والموافقة على المنتجات والخدمات المعروضة. وآراء هذه المجالس الاستشارية ليست متسقة على المستوى العالمي، بل ليست متسقة حتى داخل منطقة جغرافية صغيرة.
من المرجح جدا أن يتم التوصل إلى اتفاق لترتيب تركيبة مجالس الشريعة، مما سيزيد فاعليتها ويعالج مشكلات الشفافية وتضارب المصالح. إلا أن تحقيق معايير متفق عليها والسماح بتداول المنتجات والخدمات بحرية على أساس عالمي مسألة مختلفة تماما. فكثير من المعلقين يقارنون بين النهج الليبرالي لماليزيا مع النهج المتشدد لدول الخليج، ولكن هناك مشكلات حتى داخل بلدان الخليج العربي ـــ كما أشار حسين حامد.
من الصعب رؤية كيف يمكن التوفيق بين آراء العلماء المتحدرين من تقاليد إسلامية مختلفة. ولكن لن ينمو عالم التمويل المصرفي دون هذا التوفيق.
وقد قيل إن إعادة التنظيم الكاملة للأنظمة التنظيمية الفردية والسياسات النقدية والتفسيرات الدينية وجمعها في مجموعة معايير واحدة سيكون باهظا من حيث التكلفة، هذا إذا تم إقناع كل الدول المشاركة بالاتفاق على هذه التسوية. إلا أن تكلفة عدم العمل نحو مزيد من تكافؤ الفرص هو بسط الهيمنة المالية العالمية على الصناعة المالية التقليدية التي تعاني من الضعف والقصور الأخلاقي ـــ كما تبين من الأزمة المالية الأخيرة. يتبنى الشيخ مدثر صديقي نهجاً أكثر تحفظا في هذه القضية، حيث يقول: "في الواقع، قد يكون التنوع أداة قوة. وما نحتاج إليه هو نهج عقلاني لمبادئ الشريعة، بحيث تكون القواعد أكثر اتساقا. علينا أن نتعلم العيش مع المعارضة بدلا من إسكاتها بالقوة".
وللدكتور سلمان خان وجهة نظر أكثر تطرفا، حيث يقول: "إلى أن يثير أولئك الذين يدعون إلى الإصلاح ما يكفي من الضجة؛ وبالتالي إجبار الصناعة على إحداث تغيير هيكلي نحو المنتجات القائمة حقا على الشريعة، فلن يحدث تقدم ملموس. ولن يحدث هذا إلا إذا بدأت الصناعة بالتحرك نحو ما تقول دائما إنه – صناعة مالية قائمة على الأحكام الشرعية".
لا شك أن صناعة التمويل الإسلامي تملك فرصة لإثبات أن هناك طريقة بديلة وفاعلة لتنظيم صناعة الخدمات المالية. والسؤال هو ما إذا كان للسلطات القضائية الفردية والمؤسسات المالية الإرادة أو الإمكانات لانتهاز هذه الفرصة. وإذا لم تفعل، فلن يكون الخاسرون هم فقط المؤسسات المالية الإسلامية، بل العالم الأوسع. وستظل المؤسسات المالية الإسلامية ناجحة في أسواقها المتخصصة، ولكنها ستفوت فرصة تحدي الصناعة المالية التقليدية وتقديم بديل حقيقي وفاعل لها.