استفاقة المارد المصري
عند قيام الثورة المصرية عام 1952، كان حجم الاقتصاد المصري يعادل حجم الاقتصاد الكوري الجنوبي، أما اليوم فإن الاقتصاد المصري لا يعادل إلا 22 في المائة من نظيره الكوري, ومتوسط دخل الفرد في مصر يعادل 13 في المائة فقط من دخل الفرد في كوريا الجنوبية. هذه الحقائق تحمل دلالة واضحة على فشل عملية التنمية في المنطقة العربية التي جعلتها بين أدنى مناطق العالم من حيث مستويات المعيشة وتحقيق العدالة الاجتماعية، بسبب معاناتها على مدى عقود من تدن شديد في معدلات نمو اقتصاداتها، ما تسبب في تفشي الفقر والبطالة, حيث إن نحو 25 في المائة من بطالة الشباب في العالم توجد في المنطقة العربية، على الرغم من أن سكانها لا يشكلون إلا 5 في المائة فقط من سكان العالم. وفي الوقت الذي اكتسحت العالم كله موجة من التحول الديمقراطي بعد سقوط الأنظمة الاشتراكية في شرق أوروبا أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ظل العالم العربي خارج حركة التاريخ راكداً لا يتحرك، وبدا كما لو أنه غير مستجيب للأحداث من حوله، حيث إن الأنظمة الجمهورية الثورية تحولت إلى جمهوريات تحكم من قبل رؤساء رأوا أنهم يملكون حقاً مطلقاً في البقاء في الحكم مدى الحياة, بل إن منهم من ورث عرشه لابنه، وفي غضون كل ذلك سادت الشارع العربي حالة إحباط شاملة، وإحساس بالعجز عن تغيير هذا الواقع المزري.
وعندما تصادر الحريات، ويسود الاستبداد، تخلق بيئة مناسبة جدا لانتشار الفساد بسبب الزواج المحرم بين السلطة والمال، وهي بيئة دوماً ينتج عنها سوء استخدام للموارد الاقتصادية، ويسهل معها نهب المال العام بما في ذلك بيع مؤسسات الدولة وقطاعات الإنتاج باسم التخصيص بأبخس الأثمان لرجال الأعمال الفاسدين، ما يزيد من الفوارق الاجتماعية، ويتسبب في تفشي الفقر والبطالة، ومن ثم, ورغم أن الاقتصاد المصري كان يحقق معدلات نمو مرتفعة نسبياً خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن الوضع المعيشي لمعظم المواطنين كان يتراجع باستمرار بحيث أصبح ما يزيد على 40 في المائة من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر حاليا. وإن كان من إيجابية لهذا الفساد والاستبداد الذي كان يزداد يوماً بعد آخر في مصر، فهو إسهامه في خلق وضع غير قابل للاستمرار وجاهز للانفجار في أي لحظة، حيث إنه عندما حانت ساعة الحقيقة وانتفض الشارع المصري جاءت الثورة شاملة رافضة تماما لكل أنصاف الحلول ومصرة على تغيير شامل، وجعلت المصريين مستعدين لدفع أي ثمن لوضع حد لهذا الواقع المزري، ما أفشل مراهنة النظام السابق على أن حالة الفوضى وانعدام الأمن وتجويع المصريين التي تبناها النظام في الأيام الأولى لهذه الانتفاضة الشعبية، ستخلق وضعا أمنيا واقتصاديا يدفع الشعب المصري للانقلاب على ثورته، ويقايض الأمن ورغيف الخبز بحقه في العيش بكرامة وحرية وغد أفضل.
والحقيقة أن تأخر الجيش المصري في التدخل، على الرغم من أنه حبس أنفاس الكثيرين لما يقارب ثلاثة أسابيع, وبدا كما لو أن هذا الجيش مستعد للدفاع عن النظام على حساب إرادة شعبه، قد حقق نتائج إيجابية هائلة للثورة المصرية لم يكن من الممكن تحققها لو كان قد تدخل الجيش المصري سريعاً كما كان في تونس. فلو تدخل الجيش في بداية الانتفاضة الشعبية لربما كان المتظاهرون مستعدين للقبول بحلول شكلية كتنازل الرئيس لنائبه وبقاء النظام على حاله، ما يتسبب في وأد الثورة في مهدها، ويحد من إنجازاتها وحجم التغيير الذي كان سينتج عنها. وهذا التأخر ومع إصرار المتظاهرين على تحقيق أهدافهم وصمودهم الرائع زاد من وهج الثورة، بحيث كان ينضم إلى المتظاهرين فئات جديدة كل يوم أصبح معه عدد المتظاهرين في تزايد مستمر زاد معه جرأة المتظاهرين. وهذا التأخير أيضا تسبب في ارتفاع سقف مطالب المتظاهرين يوماً بعد يوم، بحيث أصبح الحل الذي كان يمكن أن يكون مقبولاً قبل يومين لم يعد مقبولاً الآن، والحل المقبول الآن سيصبح بعد يومين غير مقبول، أي أن هذا التأخير من قبل الجيش جعل التغيير المقبول أكبر وأشمل وأضخم مما كان يحلم به أكثر المتفائلين تفاؤلا مع بدء هذه الانتفاضة الشعبية. كما أن هذا التأخير وما ترتب عليه من مشاركة من قبل جميع أفراد وفئات الشعب المصري، سيجعل من المستحيل أن يستطيع أي شخص أو أي نظام حكم يحكم مصر مستقبلا أن يتوهم ولو للحظة واحدة أن باستطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ما يجعل تحول مصر إلى دولة مدنية حديثة تنعم بالحرية والديمقراطية أمراً غير ممكن النكوص عنه مستقبلا.
إن مصر التي كبتت وهمش دورها في محيطها الإقليمي بصورة لا تليق بإرثها التاريخي والثقافي في العالم العربي والإسلامي تستفيق الآن من هذا الكابوس المرعب، وهي مرشحة أكثر من أي وقت مضى لتقود عالمنا العربي إلى عصر جديد لم نكن نحلم به حتى قبل أسابيع قليلة.