فكرة العدالة
يعالج الكتاب فكرة العدالة من منظور اقتصادي فلسفي، ويستمد أهميته من كونه من تأليف الفيلسوف والعالم الاقتصادي أمارتيا سن الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، الذي يعد أحد أشهر وأكثر المفكرين تأثيرا في هذا العصر. والأهمية الأخرى للكتاب أنه يأتي في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية والهموم الاقتصادية والمعيشية في كثير من الدول العربية, التي بدأت تؤثر جوهريا في الحالة السياسية للدول العربية.
يتكون الكتاب من أربعة أجزاء تتضمن 18 فصلا، في الجزء الأول ''متطلبات العدالة'' يتحدث المؤلف عن العقل والموضوعية، وراولز وما بعد، نقد نظرية راولز في العدالة، وقدمت من قبل عرضا لنظرية رولز في الاقتصادية، والمؤسسات والأشخاص، والصوت والخيار الاجتماعي، والحياد والموضوعية، والحياد المغلق والحياد المفتوح. وفي الجزء الثاني ''أشكال التفكير'' يتحدث المؤلف عن العقلانية و''الآخرون'' والموضع والصلة والوهم، وتعدد مسارات التفكير المحايد، والتبلورات الفعلية والعواقب والمشيئة. وفي الجزء الثالث ''مواد العدالة'' يتحدث المؤلف عن الحيوات والحريات والقدرات، والقدرات والموارد، والسعادة وصلاح الحال والقدرات، والمساواة والحرية الفردية. وفي الجزء الرابع ''النقاش العام والديمقراطية، يتحدث عن الديمقراطية بصفتها نقاشا عاما، وممارسة الديمقراطية، وحقوق الإنسان والموجبات العالمية، والعدالة والعالم.
#2#
في تقدمة سماها ''تشكرات'' يعرض أمارتيا سن قائمة طويلة بالفلاسفة والعلماء والمفكرين في الاقتصاد والقانون، ويتحدث أيضا عن برنامح العدالة والإصلاح والاقتصاد الذي يديره في جامعة هارفارد، معتبرا أن الاقتصاد وثيق الصلة بالعدالة.
المطروح في هذا الكتاب كما يقول المؤلف نظرية عدالة رحبة، أما الهدف فبيان كيف يمكننا الانتقال إلى معاينة مسائل إعلاء العدل ورفع الظلم، بدل تقديم حلول لمسائل تمس طبيعة العدالة الكاملة، ثمة اختلافات واضحة في هذا الأمر عن نظريات العدالة المبحلة في الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة.
ويشير إلى ثلاثة فوارق تتطلب اهتماما دقيقا، أولا، كي تصلح نظرية ما في العدالة كأساس للتفكير العملي، لا بد لها من أن تتضمن طرقا لتقدير كيف يمكن إنزال الظلم وإعلاء العدل، بدل التوجه فحسب إلى وصف المجتمعات التي تتسم بعدالة كاملة. وهذه الممارسة الأخيرة سمة طاغية على كثير من نظريات العدالة في الفلسفة السياسية اليوم، وإن لممارستي تحديد ترتيبات العدالة الكاملة، وتحديد ما إذا كان تغير مجتمعي ما سيعزز العدالة أم لا، صلات بالدوافع، ولكنهما ممارستان منفكتان عنها تحليليا. هذه المسألة الأخيرة هي موضع تركيز هذا الكتاب، وهي ذات أهمية مركزية في صنع القرارات المتصلة بالمؤسسات والسلوك وغير ذلك من محددات العدالة، ولا يمكن أن تكون الكيفية التي يتوصل بها إلى هذه القرارات إلا حاسمة لنظرية عدالة تهدف إلى إرشاد التفكير العملي إلى ما ينبغي القيام به. ومن الخطأ البائن - ويمكن إثبات ذلك - افتراض أن هذه الممارسة النسبية لا يمكن مباشرتها دون تحديد متطلبات العدالة.
متطلبات العدالة
لم يتعين علينا قبول أن العقل يجب أن يكون الحكم الفصل في المعتقدات الأخلاقية, هل هنا دور ما خاص للتفكير ــــــــــ تفكير من نوع ما ربما ـــــــــ يجب اعتباره مهيمنا وحاسما للأحكام الأخلاقية؟ يتساءل سن، وإن كان يؤكد أنه ليس من الصعب رؤية أن الأحكام الأخلاقية تتطلب إعمال العقل.
لكن يبدو واضحا بما فيه الكفاية في حياتنا اليومية، لا من أشكال الظلم والاستبعاد التي يمكن أن تقع علينا نحن، ولدينا سبب وجيه للاستياء منها فحسب، بل مما نراه من هذه الأشكال في العالم الأوسع الذي نحيا فيه. ولم تكن الثورة الفرنسية أو حركة غاندي في مواجهة الاستعمار الإنجليزي أو حركة مارتن لوثر كنج في مكافحة سيادة العرق الأبيض، ما كان لمثل هذه الأعمال والإنجازات وغيرها أن تقع لولا الشعور بالظلم. لم يكونوا يحاولون التوصل إلى عالم من العدالة الكاملة، لكنهم أرادوا أن يرفعوا المظالم الواضحة بالقدر الذي يستطيعون، .. يقول سن إن إدراك المظالم التي يمكن رفعها لا يدفعنا إلى التفكير في العدل والظلم فسحب، بل هو لب نظرية العدالة أيضا.
ومن الواضح ـــــــــ في رأي المؤلف ـــــــــ أن النقاش العام سمة أساسية للموضوعية في المعتقدات السياسية والأخلاقية، ولئن قدّم راولز طريقة للتفكير في الموضوعية في تقييم العدالة، فقد استدعى آدم سميث المشاهد المحايد لتقديم طريقة أخرى، ولهذه المقاربة القديمة باع واسع جدا.
وعلى الرغم من أن تركيز راولز يبدو أنه على تفاوت المصالح والأولويات الشخصية، كان آدم سميث معنيا كذلك بالحاجة إلى توسيع النقاش لتجنب ضيق أفق التفكير المحلي في القيم، الذي قد يؤدي إلى تجاهل بعض الآراء ذات الصلة، غير المألوفة في ثقافة معينة.
وللأدوار المترابطة للمؤسسات وأنماط السلوك في تحقيق العدالة في المجتمع، صلة لا بتقييم أفكار الحكم من الماضي البعيد، وهذا واضح على الاقتصاديات والفلسفة السياسية المعاصرتين.
ومن الأسئلة التي يمكن أن تطرح على صيغة جون راولز للعدالة بصفتها إنصافا السؤال التالي: إذا كانت أنماط السلوك تختلف باختلاف المجتمعات فكيف يستخدم راولز مبدأي العدالة نفسيهما فيما يسميه ''المرحلة الدستورية'' لإقامة مؤسسات أساسية في مجتمعات مختلفة؟
ولا بد من ملاحظة أن راولز لا يتحدث عن مؤسسات فيزيائية معينة، بل عن مبدأين يضعان قواعد لضبط اختيار المؤسسات الفعلية وبالتالي يمكن أن يلحظ الاختيار الفعلي للمؤسسات ما يلزم من المعالم الفعلية للسلوك الاجتماعي القياسي.
وهناك تراث مديد في التحليل الاقتصادي والاجتماعي لتعريف قيام العدل بما اعتبر أنه الهيكلية المؤسسية الصحيحة، لكن توجد مع ذلك أسباب مهمة للاعتقاد بأن أيا من هذه الصيغ المؤسسية لا يفي بما أمل/ توهم أصحابه الحالمون/ الواهمون من وعود، وأن نجاحهم الفعلي في إنتاج تبلورات اجتماعية جيدة معتمدة اعتمادا شديدا على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المتغيرة.
وقد لا تجافي الأصولية المؤسسية (حقيقة) تعقيد المجتمعات فحسب، بل إن الرضا عن الذات الذي يرافق الحكمة المؤسسية المزعومة في أغلب الأحيان يمنع الدراسة النقدية للنتائج الفعلية لقيام المؤسسات الموصى بإقامتها بالفعل، في النظرة المؤسسية الصرفة، لا توجد رسميا على الأقل قصة عدالة خلف إقامة ''المؤسسات العادلة'' وبصرف النظر عما ترتبط به المؤسسات من خير، يصعب الاعتقاد بأنها في الأساس خير بذاتها إلا أن تكون سبيلا فعالة لتحقيق منجزات اجتماعية مقبولة أو ممتازة.
تقابل نظرية العدالة نظرية الخيار الاجتماعي، وهي تسمية تعود إلى الفيلسوف كينيث أرو، وكان معنيا بمصاعب القرارات الجماعية، وما يمكن أن تؤدي إليه من تناقضات، وقد أرسى أرو الفرع المعرفي لنظرية الخيار الاجتماعي بشكل مهيكل وتحليلي بمسلمات صريحة العبارة ومدروسة تشترط أن تلبي القرارات الاجتماعية شروطا دنيا معينة للموضوعية، يمكن أن تنبثق منها التصنيفات الاجتماعية المناسبة وخيارات الطبقات الاجتماعية. وأدى هذا إلى ولادة نظرية الخيار الاجتماعي الحديثة كفرع معرفي، لتحل محل المقاربة الاتفاقية بعض الشيء لكوندوروسيه وبوردا وغيرهما.
أشكال التفكير
يظهر تشخيص الظلم غالبا كنقطة البداية للنقاش النقدي، لكن إذا كانت هذه نقطة بداية معقولة فلم لا تكون نقطة نهاية جيدة كذلك؟ ما الداعي لوجود نظرية في العدالة؟ ألا يكفي إحساسنا بالعدل والظلم؟ ببساطة لم يكن فهم العالم قط مسألة تسجيل لانطباعاتنا المباشرة، الفهم ينطوي حتما على التفكير، وعلينا أن نقرأ ما نشعر به وما يبدو أنا نراه، ونسأل إلام تشير تلك المدركات؟ وكيف يمكن أن نأخذها في الاعتبار دون أن تسيطر علينا؟ وما موثوقية مشاعرنا وانطباعاتنا؟ قد يفيد الإحساس بالظلم كإشارة تدفعنا إلى التحرك، لكنها إشارة تتطلب معاينة دقيقة، ولا بد من أن يكون هناك تدقيق في سلامة الاستنتاج القائم على هذه الإشارات، فاقتناع آدم سميث بأهمية المشاعر الأخلاقية لم يحل بينه وبين البحث عن نظرية للمشاعر الأخلاقية، والتأكيد على وجوب المعاينة الدقيقة للشعور بالإثم من خلال التدقيق الحصيف لمعرفة ما إذا كان يصلح أساسا لإدانة محتملة. ويسرى هذا المطلب نفسه على الميل إلى إطراء أحد ما أو شيء ما.
ولاحقا لما أثاره من فروقات رئيسة يقول أمارتيا سن إنه توجد كثير من المقارنات الأخرى، في حين يمكن بنجاح حل والاتفاق في النقاشات الموضوعية على كثير من مسائل العدالة النسبية أو المقارنة لا سبيل إلى التوفيق تماما بين ما فيها من اعتبارات متضاربة. للمرء هنا أن يحاج بوجود أكثر من منطق للعدالة، كل منطق يجتاز اختبار التدقيق النقدي، لكنه يؤدي إلى نتائج لا كالنتائج التي يؤدي إليها سواه، يمكن أن تنبثق من الناس متنوعي التجارب والمشارب نقاشات عقلانية متضادة، لكن هذه قد تأتي كذلك من مجتمع بعينه، أو من وجهة النظر هذه حتى من الشخص نفسه.
ثمة حاجة إلى النقاش العقلاني مع النفس ومع الآخرين في معالجة المزاعم المتعارضة أكبر من الحاجة إلى ما يمكن تسميته ''التسامح الانعزالي'' بحل كسول من قبيل ''أنت محق في مجتمعك وأنا محق في مجتمعي'' فالتفكير والتدقيق المحايد أمران جوهريان، لكن حتى أقوى المعاينات الانتقادية قد تبقى فيها حجج متعارضة متنافسة لا تزول بالتدقيق المحايد، ويشدد المؤلف هنا على أن إمكانية بقاء بعض الأولويات المتعارضة بعد المواجهة المنطقية لا ينال من ضرورة التفكير والتدقيق، وستكون التعددية التي سننتهي إليها حينذاك نتيجة التفكير، لا نتيجة الامتناع عنه.
ومن المحتمل جدا كما يقول المؤلف، أن تكون المظالم التي يمكن تسويتها مرتبطة بانتهاكات سلوكية أكثر مما هي مرتبطة بنواحي قصور مؤسسية، فالعدالة مرتبطة في النهاية بطريقة حياة الناس، لا بطبيعة المؤسسات المحيطة بهم فحسب. على النقيض من ذلك، يركز كثير من نظريات العدالة تركيزا طاغيا على كيفية إقامة مؤسسات عادلة، وإعطاء دور ثانوي أو مساعد للسمات السلوكية، فمثلا تعطي نظرية جون راولز''العدالة بصفتها إنصافا'' المشاد بها عن جدارة، مجموعة فريدة من مبادئ العدالة لا تعنى إلا بإقامة مؤسسات عادلة لتكوين البنية الأساسية للمجتمع فيما توجب على الناس أن يكيفوا سلوكهم ليتوافق كليا ومتطلبات العمل السليم لهذه المؤسسات.
ولكن يقول المؤلف هنا إن ثمة نواحي قصور حرجة في تركيز راولز الطاغي على المؤسسات حيث يفترض أن يتوافق السلوك على نحو ملائم مع ما هو مطلوب بدل التركيز على واقع حياة الناس، وللتركيز على طرق الحياة الفعلية للناس في تقييم العدالة كثير من المضامين بعيدة الأثر في طبيعة وسعة فكرة العدالة.
مواد العدالة
كانت طبيعة الحيوات التي يمكن أن يحياها الناس موضوع اهتمام المحللين الاجتماعيين على مر العصور، وعلى الرغم من ميل المعايير الاقتصادية الشائعة للتقدم، في صورة كتلة إحصائية سهلة التوليد إلى التركيز تحديدا على زيادة قيمة بنود رفاه جامدة، مثل إجمالي الناتج الوطني، وإجمالي الناتج المحلي، حيث لا يزالان موضوعي تركيز جمهرة من الدراسات الاقتصادية للتقدم، لا يمكن تبرير ذلك التركيز جوهريا بقدر ما يمكن تبريره إلا من خلال ما تقدمه هذه البنود للحيوات البشرية التي تمسها بشكل مباشر أو غير مباشر. وصارت مسألة استخدام مؤشرات مباشرة إلى نوعية الحياة وصلاح الحال والحريات التي يمكن أن تحملها أو تأتي بها الحيوات البشرية بدلا من المؤشرات غير المباشرة، محل اعتراف واسع ما ينفك يتسع.
من المهم كما يقول سن ملاحظة أن الوفرة الاقتصادية والحرية الأساسية على الرغم من أنهما غير منفصلتين يمكن أن تتباعدا مرارا، حتى بدلالة التحرر مما يحول دون العيش حياة طويلة نوعا ما، ومن المدهش أن يكون مدى افتقار بعض الجماعات المحرومة اجتماعيا حتى في بلدان غنية جدا يشبه ذاك الذي في البلدان النامية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال ليس الأمريكان الأفارقة القاطنون في المدن في كثير من الحالات أوفر حظا, بل هم غالبا أقل حظا بكثير في الوصول إلى سن متقدمة من الناس المولودين في كثير من المناطق الفقيرة مثل جاماياكا وسريلانكا وأرجاء واسعة من الهند والصين.
وبالطبع - يؤكد المؤلف - أن ارتفاع الدخل يساعد بشكل عام على التحرر من الموت المبكر، لكن هذا التحرر يعتمد كذلك على سمات أخرى كثيرة، للتنظيم الاجتماعي، كالرعاية الصحية العامة، والضمان الاجتماعي والصحي، ونوع المدارس والتعليم، ومقدار الترابط والانسجام الاجتماعي، فليس سيان أن ننظر إلى وسائل العيش فحسب، وأن ننظر مباشرة إلى الحيوات التي يستطيع الناس أن يحيوها بالفعل.
ففي تقييم حيواتنا هناك سبب للاهتمام ليس بنوع الحياة التي نستطيع أن نحياها فحسب، بل بما نملك كذلك في الواقع من حرية اختيار بين أساليب وطرق العيش المختلفة بالفعل، فحرية تحديد نوع الحياة التي نريد أن نحيا هو أحد الجوانب القيمة للعيش التي يكون لدينا لتقديرها سبب، وكذلك يمكن أن يوسع إدراك أهمية الحرية شواغلنا والتزاماتنا.
يمكننا إن شئنا استخدام حريتنا لتحسين أهداف كثيرة ليست جزءا من حيواتنا نحن بالمعنى الضيق للكلمة، كحفظ الأنواع الحية المهددة بالانقراض على سبيل المثال، وهذه مسألة مهمة في التطرق إلى مسائل من قبيل موجبات المسؤولية البيئية أو التنمية المستدامة.
وربما يصلح خاتمة لهذا العرض أبيات من قصيدة سيموس هيني اختارها المؤلف في مقدمته للكتاب، يقول هيني:
يقول التاريخ لا أمل
في هذا الجنب من القبر
ولكن يعلو مد العدل
المأمول يوما في العمر
تأليف: أمارتيا سن (حائز جائزة نوبل في الاقتصاد)
ترجمة: مازن جندلي
الدار العربية للعلوم (بيروت) ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم/ ترجم (دبي)
الطبعة الأولى، 2010
576 صفحة