إثبات الاستراتيجيات خلال مفاوضات «الرابح والخاسر»
يتحدث هوراشيو فالكاو في هذا الجزء الثاني من سلسلة ثلاثة أحاديث أدلى بها إلى محرر إنسياد نولدج، ستيوارت بالستر، عن استراتيجيات إيجاد الاستراتيجيات، والمطالبة بإثبات شرعيتها خلال المحادثات.
إن الأمر برمته في غاية السهولة، حيث يمكن أن تعتقد أنه إذا كانت لديك اليد العليا في المفاوضات، سواء كان ذلك من خلال انسجام المعلومات، أو عن طريق امتلاكك موقفا أكثر مواتاة بصورة عامة؛ وذلك للاستفادة القصوى من كل عناصر ممارسة لعبة القوة في سبيل تحقيق ما تريده، فإن الفائز يمضي حاملا كل شيء، بينما يغادر الخاسر خالي الوفاض، حسب تعبير الأستاذ فالكاو. غير أن هذا الأستاذ يرى البديل المناسب لذلك في عمليات التفاوض؛ إذ يؤكد أن المفاوضات يجب أن تسعى إلى توفير استراتيجيات ''يربح بموجبها الطرفان''، وبحيث تسمح لكل منهما بالاستحواذ على جانب من القيمة، أو على الأقل الشعور بأن الجميع حصلوا على معاملة عادلة في عملية التفاوض.
ويرى هذا الأستاذ أن الفرق بين لعبة ''الرابح والخاسر''، و''الرابح والرابح'' هي في الأساس خيار يتعلق بوسيلة استخدام القوة، أو على الأقل إظهار ذلك أثناء عملية التفاوض. وهو يقول في ذلك، ضمن هذا الجزء من أحاديثه إلى محرر مجلة إنسياد نولدج ''إننا في حاجة إلى محاولة إقناع الطرف الآخر بما يمكن أن تكون عليه حصيلة التفاوض، دون اللجوء إلى استخدام القوة، حيث هنالك على الدوام ما يغري بالعودة إلى استخدام القوة؛ لأن ذلك يمثل أداة سهلة إلى حد ما. وهي بالفعل عظيمة التأثير، لكنها مدمرة كذلك في الوقت ذاته''. ولا بد من وجود عمليات مقايضة؛ إذ إن التكاليف المتضمنة في كل ذلك يمكن أن تكون مرتفعة للغاية.
إن المشكلة هي أنك إذا اخترت اللجوء إلى استخدام القوة، أو توافق، واتساق المعلومات لديك؛ لكي تحصل على ما تريده، فإن الطرف المقابل لك على مائدة التفاوض يمكن أن يلجأ إلى الأسلوب ذاته. ومن المحتمل بقوة أن يؤدي ذلك إلى إثارة حالة من المقاومة، ووضع العوائق؛ ولذلك ''فإن استخدام مزيد من القوة لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق القيمة''.
ويضيف هذا الأستاذ كذلك ''أنه بمجرد أن نبدأ في محاولة الحصول على ما يزيد على نصيبنا العادل، فإن من الطبيعي أن يولد ذلك التوجه مزيدا من المقاومة، إذ ينظر الآخرون إلى ذلك كمحاولة للاستفادة الذاتية الخالصة من عملية التفاوض، وكذلك على أنه احتمال وارد للجوء إلى استخدام القوة، ولذلك فإنهم يميلون إلى المقاومة. وبهذا، فإننا نعمل بأنفسنا على الدخول في معركة، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى ضياع الأثر الإيجابي لكل الجهود التي بذلناها من أجل مفاوضات ناجحة، وذلك خلال ثانية من الوقت''.
بدلا من ذلك، يوصي فالكاو بألا يركز مفاوضو تحقيق القيمة على عناصر القوة وحدها، بل عليهم أن يحاولوا جعل القوة عاملا غير ذي علاقة بعملية التفاوض. ويضيف: ''من الطبيعي أن يكون هنالك عامل القوة، لكن عليك أن توجهه بحيث يؤدي مع غيره إلى تحقيق القيمة المتوقعة من التفاوض. ويجب أن يتركز كل جهد من جانبك على هدف تحقيق القيمة، وبالتالي فإنك لست مجبرا على اللجوء إلى خيار استخدام القوة. ويجب ألا تعمل على إحساس الطرف الآخر بالخوف، وبالتالي الهروب إلى موقف الدفاع عن الذات، والبدء ببناء جدران مقاومة أمامك. وبدلا من أن نبدد كل هذه الطاقات، والموارد، فإن بإمكاننا أن نستفيد منها لتوليد مزيد من القيمة، وبالتالي تصبح هذه الفكرة هي المبدأ التفاوضي من طرفنا''.
يجادل فالكاو بأننا كمفاوضين، يجب علينا أن نركز على الدوام على محاولة تحقيق القيمة. وهذه خطوة صعبة من المفاوضات تكون في العادة من ثلاث مراحل، هي:
* استكشاف القيمة (استكشاف المصالح).
* توليد القيمة (توليد الخيارات).
* المطالبة بالقيمة (مناقشة الشرعية).
ليست هذه المراحل بالضرورة معادلة خطية تنتقل من مرحلة إلى أخرى، حسب رأي هذا الأستاذ، لكن مرحلة الاستكشاف، في حالة القيام بها كما يجب، لا بد أن تؤدي إلى تحسين عملية تحقيق القيمة، وهو الأمر الذي من الطبيعي أن يساعد في الممارسة الخاصة بمناقشة جانب شرعية المطالب التي يفترض أن تؤدي في العادة إلى تحقيق القيمة المرجوة من عملية التفاوض.
أعداء توليد القيمة
يقول فالكاو: ''إن تحقيق القيمة ليس أمرا متعلقا تماما بالإبداع، بل بدلا من ذلك بالاستكشاف، والتوليد الجيدين للقيمة، وهو الأمر الذي يتم حين يتمكن طرفا التفاوض من تجاوز بعض عقبات توليد القيمة''. ومن المؤكد أن توليد القيمة أمر شديد الصعوبة بسبب التعقيدات المحيطة بإدارة، وتصريف كثير من الخيارات، إضافة إلى الإغراء المتمثل في محاولة التسريع المبالغ به لتحقيق القيمة.
إلى جانب كل ذلك، فإن ''الأعداء'' الداخليين والخارجيين لتوليد القيمة يمكن أن يجعلوا أحد الطرفين يعتقد أن الطرف المقابل ينافس على الحصول على كل القيمة الناجمة عن عملية التفاوض، أو أنه لا يمكن توليد أي قيمة. ويتضمن الأعداء الداخليون لتحقيق القيمة فرق القوة، وأوهام التفوق نتيجة توافق المعلومات، وخلط العلاقة مع المضمون التفاوضي، بينما تتمثل عناصر الأعداء الخارجيين في قيود الموارد، والحدود المصطنعة، وذلك بالإضافة إلى الأفق الضيق في عملية التفاوض، وهو الأمر الذي يمكن له أن يحد من توافر الخيارات المتعددة على طاولة التفاوض.
إن الأمر الأبعد من كل ذلك هو أن الأستاذ فالكاو يُحذّر من أنه لا بد من مراعاة مسألة استخدام أسلوب متوازن، وذلك بخصوص توليد القيمة، أو الاحتفاظ بها، أو إبراز جوانب شرعيتها. ويقول فالكاو ''إذا استطعت توليد الكثير من القيمة، دون أن اصطحب ذلك إلى شركتي، فإنني أكون قد فشلت. وإذا حاولت أخذ ما حصلت عليه من القيمة إلى شركتي، وكان الطرف الآخر أقوى مني بكثير، فإنني أكون قد حصلت على النزر اليسير، أو حتى على لا شيء على الإطلاق. وكذلك فإنني إذا لم أستطع توليد المزيد من القيمة، فإن فرصة أخذ قيمة معتبرة لنفسي تصبح أشد محدودية؛ ولذلك فإن جميع هذه العوامل مترابطة تماما''.
ويقول فالكاو كذلك: ''إن جانب إثبات شرعية الحصول على القيمة مهم للغاية للأسباب التي أوردناها أعلاه، حيث إن ذلك يضمن توجه مزيد من الناس إلى تحقيق لعبة الفوز للجميع. وهم بذلك يحصلون على درجة عالية من الإثارة الممتعة من خلال ممارسة فكرة توليد القيمة، بحيث يمكن أن ينسوا من خلال ذلك عامل الشرعية المهم بهذا الخصوص؛ ولذلك فإننا في سبيل تقدير أهمية جانب الشرعية هذا في توليد القيمة، نعتقد أن علينا أن نكون إيجابيين، دون أن نكون سطحيين. وعلينا على الدوام التحلي بالشعور الإيجابي ونحن نسعى إلى تحقيق ذلك الهدف المتمثل بالحصة العادلة في عملية التفاوض''.
إذا تبنى المفاوضون فعليا مفهوم الفوز للجميع الذي هو في صلب مفهوم التفاوض من أجل تحقيق القيمة، فإن عليهم أن يركزوا على معنى المفاوضات، أو قيمتها، وليس على مجرد الأرقام، والسعر. وتعمل حيل المساومة على جعل جوانب تحقيق شرعية التفاوض مجرد أرقام، وذلك كما يورده الأستاذ فالكاو في كتبه المقررة. غير أنه يضيف: ''إن الأرقام يمكن أن تعني الكثير من الأمور''، وذلك اعتمادا على الموقف السائد في حينه.
ويشير إلى أن وجود سعر، دون مبرر صحيح له، يوجد في كل الحالات ''سعرا سيئا، لكن ما قد يبدو للوهلة الأولى سعر سيئ يمكن أن يتحول فيما بعد إلى سعر جيد، إذا كانت وراء ذلك السعر عملية صحيحة لتوليد القيمة''. وهو يرى كذلك أنه إذا تركزت المفاوضات كلها على السعر، فإن الكمبيوترات يمكن أن تتفاوض نيابةً عنا، وإن المعنى الكامن خلف الأرقام هو الذي يتطلب من بني البشر اتخاذ القرار بأن السعر جيد، أو سيئ.
ويضيف فالكاو: ''لذلك، فإنني أعتقد فعلا أن إثبات صفة الشرعية الخاصة بالمطالبة بتحقيق بالقيمة بالغ الأهمية؛ وذلك نظرا إلى أنه يمثل أخطر لحظة في عمليتنا التفاوضية، كما أفهمها، حيث إن الأمر قريب من عملية المساومة، وهو كذلك قريب من عملية وجود رابح وخاسر، بحيث إذا لم تكن لديك بعض المبادئ الراسخة في ذهنك، فإن من السهل، بل من المغري كذلك، العودة ثانية إلى الأسلوب الخاطئ الذي لجأ بعض المفاوضين إلى استخدامه على مدى سنوات طويلة، والذي يتمثل في عودة متكررة، وغير مجدية، للمساومة''.
الحلول
حتى نتمكن من الإنجاز الصحيح للقيمة، فإننا في حاجة إلى إدارة التعقيد، والابتعاد عن إغراء الالتزام المبكر للغاية. وإن أحد الحلول البسيطة للتغلب على هذين العائقين هو السعي إلى تطوير الصفقة المراد التوصل إليها على نحو منتظم.
بكلمات أخرى، يفترض ألا نوافق على أي فكرة معزولة بذاتها، بل إن الأمر الأقرب إلى المنطق هو السعي إلى التوصل إلى صيغة تؤدي إلى صفقة تتسم بالتوافق، أو تتكون من نظام من الخيارات المتعددة. ومن خلال تطوير هذه الصفقة عن طريق أسلوب يعتمد على التحليل، تزداد احتمالات عدم اندفاعنا نحو تبني أي خيار منعزل، أو غير ذي علاقة بغيره من الخيارات المتاحة في عملية التفاوض. ويعمل ذلك في الوقت نفسه على مساعدتنا على إدارة تعقيد التعامل مع عدد من الخيارات، بينما يولّد مسارا منطقيا يربط بين كل تلك الخيارات، ويعمل على إحداث التوازن بينها.
ويضاف إلى كل ذلك أن اعتبار أعداء توليد القيمة الداخليين، والخارجيين، هم الأعداء الفعليون للتفاوض، يساعد على توحيد الأطراف المتفاوضة في موقفها ضد أولئك الأعداء؛ ولذلك، فإن عليك توجيه الأطراف المقابلة لك في عملية التفاوض إلى الاهتمام بعوامل الحد من توليد القيمة في عمليات التفاوض، ودعوتهم كذلك إلى التقدم بحلول تستهدف تجاوز أولئك الأعداء، أو العوائق.
أما بالنسبة لإثبات شرعية المطالبة بتحقيق القيمة، فتأكد أنه في كل مرة تتم فيها مناقشة الأرقام، فإن عليك أن تبتعد عن قول مجرد ''نعم''، أو ''لا'' بخصوص أي رقم منها، وعليك، بدلا من ذلك أن تسأل ''ما هو مصدر هذا الرقم؟''؛ وذلك لمساعدة أطراف عملية التفاوض على مناقشة المبرر، والمعنى، وكذلك قيمة كل رقم في نظر جهات التفاوض. ومن شأن هذا الأمر أن ينقل أطراف التفاوض من مواقف المساومة نحو الانخراط في ممارسة مشتركة بهدف التوصل إلى رقم يتضمن المعنى، والقيمة، الحقيقيين لجميع الأطراف ذات العلاقة بالتفاوض، كما أنه يساعد في الوقت ذاته على شعور جميع الأطراف بأنها حققت جانب العدل في نصيبها الذي نالته على طاولة المفاوضات.