الحسابات الهادئة في ظل أعاصير شديدة
الأحداث المتسارعة في ليبيا وما تنقله وسائل الإعلام عما يحدث هناك، تنذر بأعاصير عنيفة على المنطقة بأسرها. فمصر وهي تشهد تحولات متتابعة، عليها أن تستقبل مليونا ونصف المليون من أبنائها العاملين في ليبيا، الذين بدأت إجراءات نقلهم إلى مصر عبر منافذ الحدود المصرية والتونسية مع ليبيا، وكلما وقعت كارثة أو سخونة أو غزو أو حرب فإن مصر تدفع ثمنا باهظا. والآن ومصر تعاني بشدة من جراء حالة الترقب والتخوف والطموح والصراع السياسي، عليها أن تدفع ثمن الإهمال الاقتصادي الجسيم الذي وقع فيه حكامها منذ عام 1952. فبعد أن كانت أم الدنيا وكانت النقود تسمى ''المصاري''، تجيء حرب في العراق فتجد مصر نفسها في مواجهة ثلاثة ملايين عائد يطلبون الحد الأدنى، وإلا تحولوا إلى الإجرام بحثا عن لقمة عيشهم. حدث الشيء نفسه في لبنان أثناء الحرب الأهلية وبعدها، وعاد أكثر من 50 ألف مصري وحدث في الأردن. هنا نقف لنتساءل: لماذا هذه الهشاشة الاقتصادية؟ لقد بدأت ماليزيا وكوريا نهضتيهما الاقتصاديتين في وقت واحد مع مصر، وإن كانت مصر الأسبق بما صنعه طلعت حرب وظهور صناعات كثيرة. الآن تهيمن ماليزيا على أسواق الكمبيوتر وتنتج كوريا تسعة أسماء من السيارات، ومصر واقفة. اكتفت بتصدير العمالة ليصبح عائد عمل هؤلاء جزءا لا يتجزأ من دخل مصر وركيزة كبرى لاقتصادها. ثم تأتي العواصف والأعاصير فتجد مصر نفسها أمام محن مخيفة تهدد أمنها. ألم يكن من الأولى لحكام مصر أن يسهروا على بناء قاعدة اقتصادية متينة قوامها الزراعة والصناعة والبحث العلمي، بدلا من إلقاء قدر البلاد على السياحة التي تتوقف لدى ظهور أية مقدمات ولو بسيطة لأي توترات ثم الاعتماد على العاملين بالخارج.. ويتذرع المهملون بأن كثافة السكان هي السبب وراء حشود العاطلين، والرد على ذلك في الصين والهند الآن، حيث إن المخطط السياسي والحاكم بوسعهما إيجاد الفرص المناسبة للجميع، مع تضافر رجال الثقافة والمجتمع في إقناع المواطن بقيمة العمل وأهمية الإبداع والتطوير، بدلا من إيجاد مواطن كل همه الحصول على شيء من الحكومة. وهذه معادلة فاسدة لأن الرخاء يعتمد أساسا على قدرة صاحبه على العمل والإنتاج وليس على عطايا الحكومات.
ينقلنا هذا إلى البحث عن الحلول، وقد روى لي أحد أصدقائي بعض المعلومات التي أعجبتني، قال إن الهند والعراق ومصر دول عريقة ولكنها مليئة بالفقراء، وإن كندا وأستراليا ونيوزلندا دول حديثة لم تتجاوز 200 عام وكذلك الولايات المتحدة، ولكنها تتمتع بالثراء مقارنة بالدول التي ذكرناها أولا، وقال إن سويسرا لا يوجد فيها شجرة كاكاو واحدة ولكنها تنتج نصف إنتاج العالم من الشوكولاتة. القائل إن الدول ذات الموارد المعدنية هي الأغنى يغفل حقيقة أن اليابان تتكون من أربع جزر بركانية: هنشو وهوكايدو وكيوشو وشيكوكو، ولكنها تمثل ثاني أقوى اقتصاد في العالم. فما السبب إذن الذي يصنع الفروق بين الأغنياء والفقراء؟ والإجابة هي الأخلاق، ونخلط هنا في بلادنا بين السلوكيات والأخلاق. فإذا كان هناك رجل فظ سيئ المعاملة له عادات سيئة فذلك أمر شخصي، أما الأخلاق فعناصرها ما يلي:
ـــ حب العمل ــــ الإبداع والتطوير ـــ الانضباط ــــ الشفافية ـــ المنافسة الشريفة ـــ الولاء والإخلاص للعمل ـــ الطموح المشروع ـــ الأمانة، وغيرها من مقومات الشخصية الإيجابية المنتجة والفعالة التي تزيد بزيادتها فرص الارتقاء والرخاء.
ينقلنا هذا إلى أكبر شعار مطروح في مساحة الدول العربية التي يجتاحها رياح التغيير وهي الديمقراطية وقد كتبت مرارا على أن هذا المصطلح ينطوي على مئات المفاهيم بعضها تأسس نتيجة لنشأة المجتمع الصناعي وضرورة تحديد الأدوار، حتى يمارس كل فرد عمله في راحة وهدوء بعيدا عن تجاوزات الآخر، ولكن أبلغ ما سمعته عن الديمقراطية كان من أحد أقاربي الذي خدم طويلا في دول ديمقراطية أثناء عمله في السلك الدبلوماسي. قال لي إن الديموقراطية في الواقع هي ديكتاتورية صارمة لأن كل مواطن يصبح ديكتاتورا على نفسه، لأن المواطن في ظل الديمقراطية يضع نفسه تحت وطأة منظومة سلوكية محددة، فهو لا ينبغي أن يقتحم بسلطته للحصول على مزايا وعليه ألا يسرق وألا يتحرش بالنساء والفتيات وألا يؤذي الآخرين ويعتدي على حقوقهم وأن يتوقف عندما يرى إشارة حمراء في الطريق حتى لو كان ذلك في الثالثة فجرا، وعليه ألا يغش في عمله مطلقا وأن يترك الباب مفتوحا للشخص الذي سيمر بعده وأن يقف في طوابير أمام السينما والمحلات والخدمات، ويتجنب أية سلوكيات لا يقبلها المجتمع، وعشرات المسموحات والممنوعات التي ينبغي الالتزام بها في كل لحظة، وهو يفعل كل ذلك ليس من باب الخوف من الحكومة (لأنها عادة حكومة لا تثير الخوف في مواطنها)، ولكن من منطلق الانضباط الشخصي ومن حقيقة الاقتناع بأن هذه السلوكيات وحدها هي التي تجعل المجتمع ينطلق في سلاسة ويسر، فالمجتمع الديموقراطي هو الذي يقوم على ضبط النفس بحيث يؤدي ذلك إلى أن يعيش الجميع تحت مظلة حزمة مقبولة من الحقوق والواجبات.
والحاكم في النظام الديمقراطي يمارس أنواعاً من الديكتاتورية فمجرد وصوله إلى سدة الحكم ولو بأغلبية 51 في المائة مقابل 49 في المائة للخصم الخاسر في الانتخابات، فهو يفرض إرادته بما يعتبره الخصم الخاسر طغيانا وتسلطا. كما أن للديمقراطية أنيابا ومخالب عاتية تنهش المخالفين لقوانينها، أي أن الشراسة ليست ديدن الديكتاتورية وحدها. غير أن الديمقراطية تنشر عقدا اجتماعيا بين جميع المواطنين لوضع القواعد السلوكية في كافة المجالات والأماكن؛ في الشارع والطريق والاقتصاد والسياسة والعائلة .. إلخ.
وهذا العقد الاجتماعي هو بالتحديد ما كان ينقص مصر، وندعو الله أن تتمكن من نسجه، لم يكن هناك قواعد أو قوانين أو ضوابط والأهم من ذلك أن المواطن لم يفرض على نفسه أي لون من الديكتاتورية لإخضاع ذاته وإبعادها عن التجاوزات ضد الآخرين، مما أدى إلى غياب أبسط أنواع المبادئ السلوكية. انتشرت الرشوة، وتحولت إشارة المرور إلى ظاهرة اختيارية وأصبح كل فرد يبني ما شاء حيثما يشاء على الأراضي الزراعية وكل فرد خاصة إذا كان متنفذا أن يعين أولاده وبناته وأقاربه في أي وظيفة وبمرتبات هائلة، بغض النظر عن مؤهلاتهم إلى جانب لجوء الأقوياء إلى العنف ضد الضعفاء كما كان الحال بالنسبة للشرطة. أي أن المواطن كان يتصرف حسب أهوائه، فضلا عن أنه غير مطالب بتبرير أعماله ومخالفاته. وما يرنو إليه المصريون الآن هو الوصول إلى هذه النوعية من المواطنين، حتى لا تتحول التغيرات إلى مشاجرات ومحاولات لفرض مجموعة على أخرى، مما ينذر ببقاء هذه النوعية التي فسدت من المواطنين، وهم بالملايين، ولا مجال لنهضة أو ارتقاء إلا برعايتهم ودفعهم قدما، وإفهامهم أن نهضة الدول تقاس بمدى تحقيق أكبر عدد من مواطنيها معدلات إنتاج وتقليص الفساد أو القضاء عليه نهائياً.
ومع تشجيع الاختلاف الصحي في الرأي سيكون أمام مصر فرصة لإخراج أعظم الأفكار، والفكرة الصحية هي تلك التي تأتي بعد طرح من طرف ورد من طرف آخر معارض ليخرج الاثنان معا بفكرة ناضجة تلبي احتياجات وطن.
ولا يمكن أن ننسى مادة مهمة يجب أن يدرسها المصريون وهي إدارة الصراعات عبر الوسائل القانونية، مثل المناقشات والمنتديات والمحاورات والعرض السلمي للأفكار دون تجاوزات، أما إذا تبخرت الحدود وزالت عوامل الانضباط فإن الفترة الانتقالية ستطول، وأخطر ما فيها ما تحمله في ثناياها من تحديات اقتصادية عنيفة يزيدها اشتعالا دخول ملايين العاطلين إلى حسابات السياسة.