السوق الكئيبة.. في اقتصاد منتعش!
إننا في هذا الوطن الحبيب نعيش حالة اقتصادية (متناقضة ومتنافرة) قلما يوجد مثيلها. السوق سواء أكانت.. تجارة، عقارا، صناعة، تجزئة، خدمات أو غيرها.. بطيء وضعيف، متهالك وممل إلى درجة الكآبة. بينما اقتصادنا الكلي "الماكرو" منتعش متفائل واعد، غني بدخله، ومدخراته، وكبير في مصروفاته ومشاريعه. فكيف يكون سوقنا كئيبا..! بينما اقتصادنا متفائل وواعد؟!
هذا التناقض يعود في أصله إلى أن التمويل التجاري من البنوك في المملكة يذهب جله إلى ذوي رؤوس الأموال والشركات الكبيرة. وتحرم من هذا التمويل غالبية القطاعات الأخرى خصوصا الطبقة الوسطى ومشاريعها الصغيرة. التمويل هو الذي يبني ويوسع قاعدة الاقتصاد، والسوق عندما يكون شاملا لجميع طبقات المجتمع. وحتى الآن لا يزال نهج التمويل يذهب إلى ما يسمى اصطلاحا (دائرة الشللية) من معارف وأصحاب نفوذ لدى البنوك. إلى درجة أن بنوكنا التي لا يتعدى عددها أصابع اليد تتحكم في غالبيتها عائلات تجارية محدودة. ورؤساء مجالس هذه البنوك خير شاهد على ذلك. هذه التفرقة في أفضلية التمويل بين طبقة وأخرى لم تعالج. وبسبب ذلك دفعنا كوطن، والطبقة الوسطى الثمن غاليا، واضمحلت هذه الطبقة الوسطى واتجه أدناها إلى طبقة الفقر. نستعيب عما نسمع بأن البعض منا يعتز بأن بنوكنا السعودية لم تفلس.. بينما كبار البنوك الأمريكية أفلست، وننسى أن مواطننا هو الذي أفلس لصالح بنوكنا التي أقرضته لشراء الأسهم ولم تقرضه لشراء البيت. وهذا أمر يستدعي التفكير والتأمل؟
الطبقة الوسطى هي عصب السوق، وهي التي تدير وتشغل الوحدات التجارية الصغيرة، ونمو هذه الطبقة هو المحرك الأساسي وراء زيادة النشاط والحركة التجارية. تتصف أنشطة الطبقة الوسطى بعددها الكبير، وتنوعها، وصغر حجمها، وقابليتها للنمو في كل مكان وزمان. وعمالتها تزيد عددا عن غيرها، أي أنها تعتبر أكبر موظِف ـــ "بكسر الظاء" ـــ في الدولة. هذه الطبقة في عمومها حُرمت من التمويل الشامل. مما أفقد اقتصادنا القدرة على التأقلم مع التذبذبات الاقتصادية. فإن كان الاقتصاد واعدا فليس لديهم تمويل للتوسع فيبقى نمو سوقنا أعرجا. وإن كان التذبذب الاقتصادي سلبيا فلا يمكنهم المساهمة في إنعاشه لضعفهم المالي.
الطبقة الوسطى هي خليط من المواطنين، منهم الموظف الذي يمارس النشاط جزئيا، والمتقاعد والمتسبب وصاحب الخدمات والتجزئة والفلاح وسائق الأجرة والمسوق.. إلخ. إنها مجموعة وظائف لا تحصى. غالبية الموظفين والمتقاعدين يعتمدون في حياتهم المعيشية على السوق كدخل جانبي. فذاك متقاعد لديه قطعة أرض يريد بناءها، ويريد قرضا عليها، لا يجد حلا وإن وجد فالفائدة مركبة ومرعبة. وإن كان متقاعدا فهذا لا يقرض لأنه قد يموت قريبا! هذه إحدى القواعد البنكية الحديثة. أصحاب الحرف والمواهب والأفكار الاستثمارية والخبرات والصناعات الصغيرة والاستشارات المتنوعة والتجزئة بأنواعها... إلخ لا يستطيعون الحصول على قروض لأن التمويل يتطلب رهنا عقاريا، بينما كل ما لديهم هو الدراسة والثقة بأنفسهم، وهذا ما تعتمده بنوك الخارج. وهذا ما بنى الصناعة والنمو في أوروبا وأمريكا وسنغافورة وتايوان. قد يصل التمويل إلى 80 في المائة من رأس المال المطلوب. لهذا السبب نجد أن نظام فرانشايزات المطاعم التي ابتدعت من أجل تشغيل وإدخال الطبقة الوسطى إلى السوق يقوم بها لدينا الأغنياء وبما لديهم من تمويل. ويحرم تمويل من لا ثروة لديه كخريجي الجامعات والطموحين من الشباب. حتى أن الأمور وصلت ببنوكنا إلى درجة تقلص إدارة الدراسات في هذه البنوك.
سوقنا كئيب وسيبقى كئيبا إذا لم نستهدف دعم الطبقة المتوسطة والأعمال الصغيرة. زيادة المرتبات مهما كانت ومهما تنوعت يلتهمها التضخم. والعقود الكبيرة والمشاريع الضخمة لا تطور كثيرا وضع المواطن العادي، الشركات التي تقوم بهذه المشاريع تعتمد كليا على ذاتها، فهم يستوردون كل ما يريدون.. لا ينفعون السوق بشيء، حتى أن لديهم وكالات المعدات التي يستخدمونها، ولديهم من الثقل ما يجعلهم يستقدمون العمالة التي يحتاجون إليها دون وكيل محلي. بل إن لديهم القدرة على استمالة واجتذاب عمالة الآخرين للعمل معهم ولديهم من الإمكانيات القانونية ما يحميهم. لا ينفعون السوق بشيء.
لا شك أن مبادرة خادم الحرمين الشريفين بعد عودته الميمونة إلى وطنه ـــ حفظه الله ـــ في دعم الصناديق المختلفة العقارية والتسليف وغيرها يعتبر نقطة تحول، يمكن استغلالها والاستفادة منها في تطوير إمكانيات المشاريع الصغيرة. بمعنى توجيه هذه الصناديق إلى تمويل مشاريع المواطن العادي وإلى المشاريع الصغيرة وإلى بناء مناطق سكنية وتقسيطها على المواطنين بدلا من المنح والقروض.
إن هذه الصناديق مقرها الرياض، فروعها في مناطق المملكة إن وجدت ضعيفة بائسة في إمكانياتها، فمن أراد متابعة التمويل فليذهب إلى الرياض. وهذه معاناة لكثير من المواطنين. إضافة إلى أن الإدارات الحكومية لم يعهد منها ذلك العطف والحرارة تجاه المعقبين وأصحاب الحاجات. والاقتراح الأمثل في هذه الحالة هو تكليف البنوك المحلية وفروعها مقابل رسوم محدودة بمتابعة هذه الأمور لعملائها مع هذه الصناديق، عسى أن تعيد إلى السوق شيئا من الابتسامة والنشاط بدلا من الكآبة الحالية.