الأولوية اقتصادية

لم تمر سُحُب الاستقرار على مصر حتى الآن, فالأفق ملبد بالعواصف, وجوهر المشكلة هو الاقتصاد. وقد رحلت أول أمس حكومة أحمد شفيق, وهي حكومة تصريف أعمال حاولت جهدها أن تحل بعض المشكلات, لكن شباب ميدان التحرير رفضوا إعطاءها الفرصة على أمل العثور على رئيس وزراء لا علاقة له بالحقبة السابقة, وهو أمر في غاية الصعوبة, فقد جاء عصام شرف وهو وزير نقل سابق في عهد الرئيس السابق حسني مبارك, ندعو الله أن يوفقه في مهمته. ورغم أن الدخان المتصاعد يبدو كأنه يرسم لوحة سياسية، إلا أن الواقع يشي بأن التحديات الاقتصادية تمثل جوهر المشكلة.
منذ اللحظات الأولى، لفت نظري أن الشباب من الطبقة التي تمتلك الكمبيوتر ولها إطلال على التكنولوجيا من خريجي الجامعة الأمريكية والأقسام المستنيرة من جامعات مصرية أخرى, وهم ليسوا من المحسوبين على من يعاني شظف العيش, وإذا بمن يجتمع حولهم آلاف من الشباب الذي له مطالب عاجلة وعادلة. شباب يطالب بالسكن والقدرة المالية التي تؤهله للزواج, وشباب محبط في عمله لتدني أجره وشعوره بالظلم الفادح وهو يشاهد أعدادا كبيرة من زملائه تحصل على أجور عالية ومزايا كبيرة لا لشيء إلا لأنها تَمُتُّ بالقرابة لعِلية القوم. هؤلاء أيضا من بينهم العاطلون عن العمل لسنوات طويلة, وما إن اتسع نطاق الثورة حتى انضمت إليها أعداد من المحرومين والمكبوتين والفاقدين حقوقا أساسية في التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.
دون أن يدري هؤلاء، فقد قدموا رسالة واضحة قوامها أن لا حرية أو ديمقراطية سياسية دون اكتفاء اقتصادي, فثروة الأمم تعتمد على ركيزة السياسة والاقتصاد في آن واحد. والاقتصاد نشاط يقوم على الطبيعة الإنسانية، وهو يعتمد على الأخلاق؛ لأن الأخلاق هي التي تظلل العمل والتطوير والانضباط والتنافس الشريف والصدق والإخلاص في العمل, وكلها مقومات أساسية للنجاح الاقتصادي. والاقتصاد هو المرآة التي تعكس سعي الإنسان إلى الحصول على الثروة ثم دوره في العدالة والتوزيع السليم.
تواجه مصر حاليا عددا من التحديات المخيفة، تتمثل فيما يلي:
ـــــ ارتفاع أسعار الغذاء على المستوى العالمي, ومصر تستورد الكثير من غذائها.
ـــــ عجز الميزان التجاري والموازنة العامة وارتفاع الدين المحلي.
ـــــ انخفاض حصيلة النقد الأجنبي بعد الشلل الذي أصاب السياحة والصادرات وتحويلات المصريين في الخارج وما يعنيه ذلك من ضغط على سعر الجنيه.
ويزيد الطين بلة والحطب لهيبا عدة أمور, هي:
ـــــ الفجوة بين الدخول.
ـــــ ضعف الأسواق.
ـــــ إيجاد المنافسة اللازمة لزيادة الإنتاجية.
وقد جعل الأمور أكثر تفاقما نزعة كل من حكومة الدكتور عاطف عبيد والدكتور أحمد نظيف إلى تطبيق اقتصاد نابع من فكر اليمين الاقتصادي الذي سجل صفحة سوداء من الفساد عندما حدث ذلك الزواج بين السلطة والثروة, وهو نموذج فشل في روسيا والأرجنتين وشيلي ودول أوروبا الشرقية, وفشل معه نموذج واشنطن القائم على خفض الدعم والخصخصة والتحرير السريع وتفكيك احتكارات الدولة (القطاع العام). وقد فشلت المجموعات الاقتصادية واحدة بعد الأخرى في التوفيق بين قوى السوق والعدالة الاجتماعية, وهو الأمر الذي ألهب الجماهير بعد طول إحباط.
وفي إطار الحالة المصرية الحالية التي تدور في فلك إلقاء التبعات والبحث عن المتسببين في المصائب الاقتصادية والفساد, ليس أمام الحكومة الجديدة رفاهية الانتظار والمراقبة, إذ عليها فورا عدة واجبات على رأسها:
أولا: السعي إلى التشغيل الكامل لكل الأموال المتاحة, والتأكد من مستوى تدفق الطلب الكلي.
ثانيا: تفادي طبع نقود لمواجهة النقص في موارد الدولة.
ثالثا: زيادة الموارد بتجنب أنواع التنازلات الضريبية, فقد أصبحت أمريكا دولة عظمى بفضل نظامها الضرائبي التصاعدي الذي يوفر للدولة موارد حقيقية.
رابعا: فرض ضرائب على أنواع الربح الكسول (بيع الأراضي والعقارات/ السمسرة, واسترداد الأموال بأحكام قضائية).
خامسا: وضع قيود على حركة دخول الأموال وخروجها كما فعلت دول مثل الهند والصين وماليزيا.
سادسا: مساندة الشركات الوطنية في مواجهة الشركات العالمية العملاقة التي لا تهدف ــــ في ظل العولمة الأمريكية ــــ إلا إلى تحقيق الأرباح (الدواء, الغذاء, وغيرهما).
سابعا: تشجيع الاستثمار الأجنبي الذي يضيف أصولا لا ما يتملك شركة.
ثامنا: التناغم بين الحماية والدعم وتنظيم السوق, وأول من طبق ذلك أمريكا نفسها التي طبقتها على الحديد واللحوم والملابس لحماية الصناعة الأمريكية.
تاسعا: تدعيم المزايا التنافسية في الصناعة المصرية بدلا من اللجوء إلى التصدير بأسعار متدنية لا تفيد شيئا.
عاشرا: التعامل مع البورصة بنظرة جديدة وفرض ضرائب على عائداتها.
حادي عشر: التركيز على النزعة الإنتاجية التي تسعى إلى تأكيد الاتجاهات طويلة المدى من خلال التكنولوجيا والاستثمار المباشر.
ولن تنسى مصر أن الطعنة الاقتصادية الكبرى التي وُجِّهت إلى صدر اقتصادها تمثلت في تحويل الثروة من المبادرين والعاملين في الاقتصاد الإنتاجي إلى المضاربين والسماسرة, وكان من نتيجة ذلك انخفاض تنافسية مصر وانهيار مستوى المعيشة.
وكما تعلم أيها القارئ الكريم، فإن الاقتصاد محيط متلاطم الأمواج، ولذلك لن نُغفل عدة أمور على رأسها:
ـــــ تشجيع الادخار والاستثمار الوطني.
ـــــ الانضباط المالي والنقدي الصارم وتقشف القيادات.
ـــــ تشجيع المنافسة والشفافية ومحاربة الفساد ومشاركة المجتمع بأكمله في مراقبة ذلك.
ـــــ ترشيد استخدام المياه والطاقة.
ـــــ الإصلاح الإداري للدولة وإعادة هيكلة الحكومة بحيث تتمكن من تنفيذ هذه الخطوات الصعبة.
ـــــ التعامل مع العولمة بإيجابية وفرض الضرورات المصرية في مجالات التجارة الدولية والملكية الفكرية وتنظيم الاحتكارات الدولية.
ـــــ تجنب وصفات العلاج التي يقدمها صندوق النقد الدولي, فقد أسهم مرارا في تدمير الدول الصغرى؛ لأن إصلاحاته تتسم بمجاملة الشركات العملاقة التي تسيطر على واشنطن وهي بدورها تسيطر عليه.
إذا وضعنا كل ذلك في حساباتنا, مع الاتجاه لفتح فرص عمل وتصحيح تشوهات السوق وإشباع الحاجات الأساسية للمواطن وعدم إخضاع التعليم والصحة لقوى السوق مع تطوير الزراعة وزيادة الاستثمار فيها.. كل ذلك سيعود بالرخاء والتقدم على مصر ــــ بفضل الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي