حقيقة التكافل في الإسلام .. هل تكفي الشركات لتمثيلها؟

يُختزل مفهوم التكافل في الإسلام حاليا في شركات التأمين التكافلي، وعند إطلاق اسم التكافل بالإنجليزية يتبادر لذهن المتخصصين المفهوم الربحي للتكافل؛ المتمثل في شركات التأمين التكافلي التي تنتشر عبر العالم بعدد يقارب 130 مؤسسة تكافلية. وقد بدأت فكرته المؤسساتية من السودان عام 1979، وهناك فرق كبير بين المفهوم التأميني التقليدي السائد والمفهوم التكافلي الإسلامي، الذي يتميز بفكر تعاوني لتوزيع المخاطر وجبرها عبر المشتركين في حمل الوثائق التكافلية.

وبتأمل مشهد الاقتصاد الإسلامي المؤسساتي، لا شك أن التأمين التكافلي يُشكل ذراعا أساسية في تشكيل هذا النظام إلا أنه ـــ وللأسف ـــ يُبقى التكافل أسير المفهوم الربحي بقالب شكلي إسلامي لحين بروز عناصر الابتكار لدينا، وعدم مماثلة شركات التأمين التقليدي. فالمنتجات التي يقدمها التأمين التكافلي لا تكاد تفترق عن منتجات التأمين التقليدي، بل لا تزيد، فمن التأمين على السيارات إلى التأمين البحري والصحي والتأمين على الحياة؛ تبقى الأسماء متشابهة والمعطيات المالية تقتصر على فصل الحسابات بين أموال المساهمين والأقساط التأمينية المتحصلة من حملة الوثائق، ولم يصل مسامعنا لغاية اليوم قفزة نوعية في نشر الوعي التكافلي لدى عموم الشعب؛ الذي يُعد المغذي الأول لحياة هذه الشركات.

عندما تبقى هذه الشركات التكافلية تتغنى بإبداع فكرة التكافل في الإسلام، ولسان حالها ينطق بالربح أولا وآخرا ومشابهة المنتج التأميني التقليدي؛ سيبقى التأمين التكافلي في الظل، وقياس نجاحه ـــ في رأينا ـــ ليس بحسب الحصة السوقية التي يستطيع أن يستأثر بها من السوق الموجود فيها، وإنما بمقدار الإبداع في ابتكار المنتجات التي تلبي احتياجات السوق بطابع إسلامي حقيقي يستأثر بالتفوق من خلال ترجمة حقيقية للفكر التكافلي في الإسلام.

إن التعاون بين المؤسسات المالية الإسلامية القائمة لا شك أنه الطريق الأولي لبلورة ودعم الفكر المالي الإسلامي كل في مجاله. والتأمين التكافلي له أبعاد ومرونة تؤهله لأن يتقاطع مع عديد من المؤسسات سواء الربحية أو غير الربحية؛ من مثل البنوك والأوقاف والصحة والتعليم وغيرها، ومع ذلك يبقى لغاية الآن أسير المنتج التأميني التقليدي.

إن التطور في مفهوم تقديم الخدمة المصرفية الإسلامية يتطلب بقوة تطوير الشركات منتجاتها التكافلية بما يتناسب مع المعطيات المعاصرة لتطوير العمل المصرفي الإسلامي، إضافة إلى المعطيات الحالية التي تنادي بتطوير الأوقاف الإسلامية، وطرح الأفكار التي ترتقي لعمق الفكر المالي الإسلامي؛ بما يمثله من فئات ومؤسسات.

إن عدم نشر ميزات الفكر المالي الإسلامي سواء المتعلقة بالتجارة (الربح) أو بمفهوم التبرع (الأوقاف، الصدقات ...) من خلال المؤسسات المنظمة لهذه الأعمال، يظلم الفكر المالي الإسلامي ككل، ويُبقيه أسير التقليد إلى أمد لا ندري كم يطول. وبينما تضطلع المؤسسات الغربية بدراسة معطيات المؤسسات المالية الإسلامية من تصنيف وتحليل وغير ذلك، إلا أنه لا يمكن لها أن تنطلق من منطلقات الفكر المالي الإسلامي إن لم تتعاون مع مفكرين وعلماء مسلمين لديهم انفتاح فكري متنور، إضافة إلى القدرة على استشراف مستقبل هذه الصناعة ضمن معطيات مؤسساتها الحالية، وبتوصيات لرؤية مستقبلية تُلهم القائمين على هذه المؤسسات ضرورة تبني خطوة ريادية تشمل أبعاد الفكر المالي الإسلامي بمعطياته الربحية واللاربحية، وكلاهما قد يُشكل شريانا للآخر.

عندما ينطلق السودان من خلال مؤسساته التكافلية بمنتجات تكافلية تثبت نجاعتها وبعضها يتفوق بتخطي المخاطر المرتبطة بالزراعة وبعقد السلم تحديدا، استجابة لمعطيات تطور الصناعة المصرفية الإسلامية بما يتناسب مع احتياجات طبيعة الأعمال في السودان، الذي تُمثل الزراعة فيه العنصر الأساس يلي ذلك ابتكار المنتجات، وأساليب التعامل الحسابية، وإدارة المخاطر فيها بما يفترق افتراقا جوهريا عن معطيات التأمين التقليدي، وتبدأ رحلة الإبداع والتميز بعيدا عن مجرد المشابهة والتقليد.

وعندما تنتشر في مجتمعاتنا العربية مفاهيم الأسرة والعشيرة والتكافل فيما بين أفرادها ـــ كما الحال في الأردن على سبيل المثال ـــ ودول أخرى، نحتاج لمنتج تأميني يتناسب مع تطلعات هذه العائلات بقدرة تنظيمية لأموال ـــ قد تكون زهيدة ـــ إلا أنها تتوزع على عدد كبير من أفراد العائلة، لتعلن حاجة مكبوتة وغير معلنة لجهة تنظيمية باستطاعتها نشر الفكر التكافلي من خلال العشيرة والعائلة والدواوين، لتصل إلى الاحتياجات الصحية والتعليمية للفرد، ومن ثم تحقيق الإنجازات وإبراز المفهوم التكافلي بأسلوب أكثر تنظيما ومأسسة.
إن حصر الفكر التكافلي في الشركات، وعدم تحرك هذه الشركات باتجاه ملامسة احتياجات المجتمع ـــ وعلى رأسها الوعي التكافلي ـــ يُبقي هذه المؤسسات في الإطار الربحي المجرد بعيدا عن رقي المفهوم التكافلي، الذي يصل للتذكير بالمهاجرين والأنصار في بعده الأكثر رقيا وفاعلية.

إن التأمين التقليدي بكافة أنواعه تولّد عن حاجة سبقته فكانت أُمّا للاختراع، فالتأمين ضد الحريق بدأ بعد حريق لندن عام 1666، والتأمين البحري بدأ بصورته الحديثة بعد تطور التجارة البحرية وزيادة المخاطر، والتأمين على السيارات أيضا تولد من الحاجة الملحة لتأمين المخاطر المرتبطة بها، وبالنسبة لاحتياجات المؤسسات المالية الإسلامية وكذلك الأفراد، فإن التأمين التكافلي والمؤسسات التي تقف وراءه ـــ بلا شك ـــ تدرك تنوع الحاجات وأولوياتها بالنسبة للمجتمعات الإسلامية. وبغض النظر عن إقبال الناس على التعامل مع التأمين التكافلي وشراء وثائقه من باب النزعة الدينية أو غيرها، فإننا نرى أن انطلاقة التأمين التكافلي وتميزها تبدأ من ارتباطه الوثيق بكل من المؤسسات المالية كشركات التمويل الإسلامي والبنوك وغيرها، إضافة إلى المؤسسات غير الربحية كالأوقاف والزكوات والجمعيات التعاونية، وما يستجد من احتياجات مجتمعية ضرورية، فإن دراسة ذلك بجد من شأنها أن تجعل التكافل المؤسساتي الأسلوب العملي لترجمة فكر أخلاقي عمقه التكافل وأهدافه الرفاه والتعاون لدرء المخاطر وتلبية الاحتياجات الملحة وغيرها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي