المحكمة الجنائية الدولية والحالة الليبية
في أعقاب الأحداث التي وقعت على أرض ليبيا تبنَّى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 1970, الذي يفرض سلسلة من العقوبات على الحكومة الليبية, لعل أبرزها قرار مجلس الأمن إحالة الموقف في ليبيا إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهذه الخطوة تفجر العديد من الإجراءات التي تتضمن إلقاء القبض على القيادة الليبية ومحاكمتها وسجنها من أول مرتكب لجرائم الحرب انتهاء إلى العقيد القذافي نفسه.
وفي الثاني من آذار (مارس) الجاري ـ أي بعد أربعة أيام من اتخاذ القرار - أعلن المدعي العام في هذه المحكمة ''إنه بعد فحص الأدلة المتاحة فإن المحكمة في حاجة إلى إجراء تحقيقات''. وقد لاحظ المراقبون السرعة الهائلة التي تم خلالها اتخاذ هذا الإجراء, التي وصفوها بأنها أسرع إجراء قضائي دولي في تاريخ العلاقات الدولية, حيث إنه من الإجراءات المعتادة أن يستغرق الأمر العديد من الشهور قبل التوصل إلى قرار ببدء التحقيقات.
ويفسر المحللون هذه السرعة في صدور قرار مجلس الأمن والاستجابة العاجلة من جانب المدعي العام للمحكمة, بأنه مؤشر على أحد أمرين:
الأول: هو وقوف الولايات المتحدة بثقلها الدولي والسياسي وراء الموضوع.
الآخر: الأهمية القصوى التي اكتسبتها المسألة الليبية على الصعيد الدولي وكذلك المكانة المراد تحقيقها للمحكمة الجنائية الدولية كأداة لتأديب المارقين والدور المطلوب لها كمنظمة تأديب دولية.
والمحكمة الجنائية الدولية محكمة تنظر القضايا الخاصة بأكثر الجرائم الدولية خطورة, ومقرها لاهاي عاصمة هولندا, وقد بدأ عملها 2003, ومنذ ذلك التاريخ وهي تتحرك وتعمل في قضايا وادعاءات حول جرائم في إفريقيا وبصفة خاصة في الكونغو ودارفور, وهي متخصصة في التعامل مع أشد الجرائم ضراوة وشراسة, خاصة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الجماعي والجرائم المضادة للإنسانية وجرائم الحرب. ولدى المحكمة الصلاحية بالتصرف والتدخل في حالة فشل الهيئات القضائية الوطنية في التحقيق والادعاء ومواجهة الجرائم بصورة فعلية.
وتختلف المحكمة الجنائية عن محكمة العدل الدولية التي تعمل الآن منذ قرن من الزمان, فبينما تتعامل محكمة العدل الدولية مع قضايا قانونية تتعلق بحقوق الدول (مثل الجدار العازل في الضفة الغربية)، نجد أن المحكمة الجنائية الدولية محكمة تضطلع بمحاكمة الأفراد. وهذا يمثل فارقا كبيرا بين المحكمتين وبين الجنائية وغيرها من المحاكم الدولية المؤقتة, التي شهد العالم نماذج منها في العقود الماضية, ويمكن للجنائية الدولية احتجاز الأفراد ومحاكمتهم وسجنهم, والفكرة الأساسية هنا هي أن تحميل الأفراد المسؤولية هو أنجع وسيلة لردع الانتهاكات الحادة للقوانين الإنسانية وحقوق الإنسان.
تأسست المحكمة الجنائية الدولية في إطار تشريع روما, وهي معاهدة دولية دخلت حيز التنفيذ عام 2002. وقد وقع على اتفاقيتها 114 دولة بما فيها جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي ومعظم دول أمريكا الجنوبية وعشرات من دول أخرى حول العالم, والعجيب أن عددا مهما من الدول الكبرى ليس عضوا في اتفاقيتها، ومن هؤلاء الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند, ولا يوجد في العالم العربي أي عضو فيها فيما عدا الأردن.
ويرجع السبب في تراجع هذه الدول وغيرها عن الاشتراك في المعاهدة ومن ثم المحكمة، إلى خشيتها من أية عقوبات قد توقع على أبنائها، خاصة من العسكريين في أعقاب حملات عسكرية. وليس سرا أن الأداء القمعي الأمريكي في العراق وأفغانستان يضعها بكل بساطة في قائمة المجرمين, لكن واشنطن تجيد استغلال المحكمة ضد خصومها بعيدا عن أبنائها. ورغم ذلك يمكن للمحكمة الجنائية أن يكون لها صلاحية وولاية على مواطنين ينتمون إلى دول ليست أعضاء في اتفاقية المحكمة، ويتم ذلك عبر واحدة من الطرق التالية:
أولاً: أن تكون الجريمة التي تم ارتكابها قد قام بها مواطن لدولة وقعت على تشريع روما أو أن تكون قد قبلت صلاحية المحكمة.
ثانياً: يمكن للمحكمة أن يكون لها صلاحية إذا وقعت جريمة ما على أرض أو سفينة بغض النظر عن الجنسية الخاصة بالمتهم. وهذا النص هو ما تستخدمه الآن السلطة الفلسطينية التي طالبت بأن تكون فلسطين دولة ومن ثم فإن ما يحدث على أرضها يدخل تحت مظلة التشريع الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، رغم أن المستهدفين من تحقيقات المحكمة لا ينتمون إلى دولة وقعت على قيام المحكمة.
ثالثاً: يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يحيل موضوعا إلى المدعي العام الخاص بالحكمة الجنائية الدولية، ويمكن للمجلس أن يقدم على هذه الخطوة بغض النظر عن شخص مرتكب الجريمة ومكان ارتكابها. وقد تم توجيه هذا الممر إلى وجهتين فقط حتى الآن وهما دارفور وليبيا.
وفي عام 2005 وبعد سنوات من تقارير من جهات متنوعة عن العنف في دارفور، أحال مجلس الأمن الموضوع برمته إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وعند التصويت امتنعت كل من الولايات المتحدة والصين – وكلاهما عضو دائم في مجلس الأمن – عن التصويت وقد أدت هذه الإحالة إلى إصدار دعوى تحقيق في العنف واتخاذ قرار بالقبض على الرئيس السوداني عمر البشير، خاصة وأن رؤساء الدول ليسوا بمنأى عن تطبيق العقوبات شأنهم شأن الأفراد العاديين.
وقد أدى إصدار قرار القبض على الرئيس عمر البشير إلى إرغام الدول الموقعة على تشريع روما على تسليم عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا ما دخل أراضي واحدة من هذه الدول. ورغم هذا القرار فقد سافر الرئيس البشير إلى تشاد وكينيا (وكلاهما موقع على تشريع روما والمحكمة) دون أن يحتجزه أحد. وقد حث قرار مجلس الأمن كل الدول - حتى تلك الدول غير الأعضاء في تشريع روما - على أن تتعاون تعاونا كاملاً مع المحكمة. غير أن الرئيس عمر البشير سافر إلى إثيوبيا وإريتريا وعدد من الدول العربية من بينها ليبيا، دون أن يعترضه أحد.
وقصة الرئيس البشير تروي لنا الكثير عن المحكمة الجنائية الدولية وتبين محدوديتها وقصر ذراعها، غير أننا لا ينبغي أن نغفل أن الرئيس البشير ألغى عددا من رحلاته إلى دول أخرى خشية إلقاء القبض عليه. وهناك عدد من المتهمين من الكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى يقبعون في سجون لاهاي، وهناك بعض المحاكمات تجري على قدم وساق، أي أنها محكمة نشطة. ويعلق المحللون الأفارقة ساخرين بأن المحكمة تم تشكيلها للتعامل مع زعماء أفارقة لا ترضى عنهم الدول الكبرى.
وفيما يتعلق بالمسألة الليبية دعمت الولايات المتحدة – غير العضو – إحالة القضية الليبية إلى المحكمة الجنائية الدولية، وألحقت ذلك بمشروع قرار يحمل فكرتها رغم أنها ليست عضوا في تشريع روما ورغم امتناعها عن التصويت في قضية دارفور. ويرى الخبراء أن هذا الموقف الأمريكي الجديد قد يكون مقدمة لدعم أمريكي لهذه المحكمة.
وكما حدث في قضية دارفور، قد يؤدي التحقيق بشأن ما يجري في ليبيا إلى إصدار أوامر بالقبض على أفراد بمن فيهم القذافي وعائلته وضباطه وجنوده والفرق شبه العسكرية أو المرتزقة الذي اتهم القذافي بجلبهم، ومحاكمتهم.
ورغم أن هذا السيناريو قد لا يستمر على هذا النحو، فإن دخول المحكمة الجنائية الدولية له جانب من الأهمية, ذلك أن تلك المحكمة ورقة في يد خصوم القذافي قد ترغمه على التنحي وإذا فشلوا في هزيمته فإن وجود المحكمة سيظل عاملا مهما في تشجيع الثوار ضد القذافي. وسواء نجحت المحكمة مع القذافي أو فشلت فلا شك أنها أصبحت إحدى حقائق الشؤون الدولية.