الفوضى الخلاقة .. ما دور مركز ديان في تفتيت الأقطار العربية؟

كشفت الأحداث والاحتجاجات الأخيرة في الدول العربية أهمية المعلومات ودورها في تقدير توجهات الشارع، والتوقع المبكر بالأزمات، وأحيانا دفعها إلى حيز الوجود، وهذا الأمر يحتاج إلى جهد استطلاعي وميداني دقيق، يتعرف على التناقضات الداخلية واحتمالية الصدام المتوقعة، وإشعال فتيل الفتنة فيها وقت الحاجة، كما أن هذه المعلومات يمكن تزويد دول عديدة بها تمكنها القدرة على التدخل والتأثير بوسائل عديدة، ويمكنها أن تكشف أيضا عن صلابة الوضع الداخلي أو تفتته واستخدامه. وهنا يطرح السؤال: هل ما جرى له علاقة بقوى الاستطلاع المبكر؟ وهل قرأت القوى الخارجية عوامل القوة والضعف الداخلي في كل من مصر تحديدا وليبيا وتونس واليمن؟ وما علاقة ما يجري بمركز دايان الإسرائيلي؟ وهل نحن أمام فوضى خلاقة فعلا؟!
المدرسة الاستشراقية الإسرائيلية طاغية في دراسة المجتمعات العربية؛ بهدف رصد إمكانية تفتيت الهوية العربية إلى هويات فرعية متناحرة، لعل ذلك يسهم في إضعاف الجانب العربي، وهو أمر مطلوب لضمان سيطرة وهيمنة إسرائيل في الإقليم. هكذا يذهب عدد من المتابعين للشأن الإسرائيلي من الباحثين العرب. والحديث هنا عن دور مراكز الأبحاث الإسرائيلية في تسليط الضوء بحثيا على بؤر التوتر وتضخيمها، وهو ما يرصده الباحثون العرب.
فمثلا، مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا - كما هو الحال مع العديد من مراكز الدراسات العربية - يركز الكثير من الجهد والمال لتحقيق اختراقات في المجتمعات العربية على وجه الخصوص لاستقراء الواقع والعمل على تزويد صناع القرار بدراسات علمية تحوي سيناريوهات وبدائل وخيارات للتعامل مع الإقليم بشكل عام بشكل يعظم مصالح إسرائيل كما تراها النخب الإسرائيلية. وهذا الهدف هو ما يقود أجندات البحث لدى عدد من الباحثين في المركز، فنظرة فاحصة لما ينتجه مركز دايان من كتب وأبحاث، وما يقوم به من نشاطات بحثية وغيرها، تكشف أنه في غاية الأهمية لصياغة المشروع الصهيوني لتفتيت الدول العربية، وهو بالفعل من الخطورة بمكان؛ إذ يقوم بالتنظير لترويج فكرة تفتيت الهويات العربية الفرعية في دول مهمة مثل: مصر، الخليج، لبنان، اليمن، سورية، العراق، حتى في شمال إفريقيا.
فعلى العكس من الحالة العربية ودور مراكز الدراسات العربية الهامشي، تلعب مراكز الدراسات الإسرائيلية دورا بارزا في تزويد صانع القرار بخيارات وبدائل شتى إزاء كل القضايا التي تهم حاضر إسرائيل ومستقبلها في المنطقة، فنورد على سبيل المثال لا الحصر الآراء التي جاء بها البروفيسور أرنون سوفير من جامعة حيفا تجاه المعضلة الديمغرافية الإسرائيلية، فآراؤه المتعلقة بالمعضلة الديمغرافية التي عرضها في مؤتمر هرتسليا الأول عام 2000 أصبحت محط إجماع حتى من قبل اليمين الإسرائيلي، بحيث بات الانفصال الأحادي عن الفلسطينيين سياسة يكاد لا يختلف عليها اثنان في الكيان الصهيوني. ففي تلك الدراسة المشهورة توقع أرنون سوفير أن يتغير الميزان الديمغرافي بحلول عام 2020 لمصلحة الفلسطينيين في البقعة الجغرافية الممتدة بين البحر المتوسط ونهر الأردن بحيث يتحول اليهود إلى أقلية 42 في المائة، ما يقوض من الطبيعة اليهودية والصهيونية لإسرائيل ويعمل على اختفاء الكيان الصهيوني عن الخريطة إن أخفق القادة الصهاينة في إحداث انفصال عن الفلسطينيين بأسرع وقت ممكن. وهذا هو السبب الذي دفع شارون للبدء بتنفيذ خطة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة، فالهدف الأهم هو أمن يهودية الدولة قبل كل شيء وقبل الحدود.
في وقت مبكر عندما كان العرب يغطون في سبات بحثي عميق، أسست إسرائيل المركز عام 1959 وحمل اسم مركز شيلواح نسبة إلى رؤوفين شيلواح مؤسس الموساد الإسرائيلي، وكان المركز جزءا من المؤسسة الاستشراقية الإسرائيلية، ثم بعد ذلك أصبح المركز جزءا من جامعة تل أبيب عام 1963. وكان المركز الأول في إسرائيل التي اعتمدت عليه إسرائيل كثيرا في صناعة قراراتها الأمنية، إلا أنه في عام 1983 أعيدت تسمية المركز ليحمل اسم ديان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا.
المركز يحاول لعب دور مهم في التركيز على الخلافات المجتمعية العربية؛ بغية التنظير لإثارة الفتن لتقويض هذه المجتمعات عن طريق دراسة وتأجيج حالات التمرد التي تحدث والتحالف مع المجموعات الطائفية والإثنية، كما حدث مع الأكراد في شمال العراق في سبعينيات القرن الماضي، فهناك العديد من الدراسات والأبحاث التي هدفت من جملة ما هدفت إليه إلى إشاعة الفتن مع أنها دراسات لا تعلن ذلك، فاستخلاصات الدراسات ترسل إلى الموساد الإسرائيلي؛ حتى يستفيد منها لاختراق الجماعات الطائفية والإثنية، والتركيز هنا في كثير من الأحيان على الأقليات. وكما هو معروف فإن إسرائيل عملت على إقامة تحالفات مع الأقليات في العالم العربي حتى تشتت من تركيز وجهود الدول العربية بدلا من تركيزها وتعبئة طاقاتها الكامنة لمواجهة المشروع الصهيوني في المنطقة وفي فلسطين.
وركز المركز على المناطق التي فيها بؤرة توتر، ووضع المركز هدفا له وهو التمهيد لتقسيم العراق وفصل شمال السودان عن جنوبها، والعلاقات الإسرائيلية مع جورج قرنق زعيم تمرد الجنوبيين الانفصاليين في السودان قبل أن يلقى حتفه في حادث طائرة عمودية موثقة. ورفع المركز من منسوب التركيز على العراق والسودان على اعتبار أنهما بلدان جاهزان للتقسيم، على العكس من لبنان التي أقامت إسرائيل تحالفات معروفة تاريخيا مع زعيم الموارنة بشير الجميل بغية إضعاف لبنان وربما تقسيمها من الداخل بما يخدم المخططات الصهيونية وعقيدة إسرائيل الأمنية التي كانت تستند إلى التحالف مع دول أطراف غير عربية والتحالف أيضا مع أقليات غير عربية أو غير مسلمة. كما ركز المركز نشاطاته من خلال إقامة لجان صداقة مع جماعات أمازيغية بغية خلق وعي بمشكلة الأمازيغ في شمال إفريقيا.
المركز في الجهد الذي يقوم به يتلقى دعما ماليا من مؤسسات المجتمع المدني ومن الجامعة التي يعمل فيها ومن المؤسسات الأمنية ومن الولايات المتحدة بسبب تقاطع برامجه مع أهداف أمريكية في المنطقة في أوقات مختلفة. ويتبع للمركز مكتبة متخصصة مهمة فيها تجميع هائل لمواد تتعلق بالدول العربية، حتى لصحف صدرت في بداية القرن الماضي من كل الدول العربية، وهو أمر لا يتوافر في أي دولة عربية أخرى؛ لذلك يأتي إنتاج المركز غزيرا وموثقا، وهو ما يسبغه بالصفة العلمية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن فكرة تشتيت وتقسيم العالم العربي فكرة استعمارية قديمة، ويكفي أن نشير إلى اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 وما تلاها من اقتسام استعماري للمنطقة، بحيث أشرفت الدول الاستعمارية على نشأة نظام الدول في المنطقة بشكل عام، وأسهمت السياسة الاستعمارية التي قامت على التفرقة بين أبناء وشعوب المنطقة في تعزيز الفرقة وإضعاف المجتمعات العربية. من هنا فإن إسرائيل ومراكزها البحثية تستمر في الوصفة المجربة والناجعة نفسها في خلق ظروف التشظي والانقسامات العربية خدمة للمشروع الصهيوني. وعلى نحو لافت لعب المفكر البريطاني اليهودي برنارد لويس دورا في التنظير لتقسيم المنطقة إلى كيانات صغيرة بغية السيطرة عليها، وكان لآرائه تأثير كبير في المحافظين الجدد في الولايات المتحدة عندما وصلوا إلى السلطة مع الرئيس بوش الابن.
ولتعرية دور المركز عربيا أعد الدكتور حلمي عبد الكريم الزعبي دراسة نشرت في القاهرة، ركز على تسليط الضوء على النشاطات التي يقيمها المركز والإصدارت بتلاوينها كافة. ويجادل الدكتور حلمي أن المهمة الملقاة على عاتق المركز تتجاوز في مضامينها وآفاقها العمل الأكاديمي الصرف، وتذهب باتجاه التنظير لإشاعة ظاهرة التفتت والانقسامات في الدول العربية. وفي الدراسة يكشف الدكتور حلمي كيف أن المركز وضع عددا من الدول العربية على خريطة التفتيت. وللتدليل على دور المركز التفكيكي يتعرض الدكتور حلمي لدراسة - على سبيل المثال لا الحصر - تتمحور حول ندوة حول التركيبة السكانية لدول المغرب العربي وإمكانية اختراقها والعمل على تفكيكها على غرار ما حدث في شمال العراق وجنوب السودان. وبالفعل قام المركز بدعوة 18 شخصية أمازيغية للحديث عن الأوضاع الأمازيغية بشكل يسعى إلى التمهيد لإثارة الفتنة. ويرى معد الدراسة الدكتور حلمي أن البنية الفكرية والاستشراقية للمركز تتركز على عاملين اثنين، هما "نظرية إثارة الفتن ودق الأسافين داخل المجتمعات العربية في نطاق استراتيجية تفتيت المجتمعات والدول وتفكيكها من الداخل عن طريق تأجيج حالات التمرد والصراعات. والدعامة الثانية: التحالف مع ما سمّي بالجماعات الإثنية والطائفية من أجل إسناد ودعم مشاريعها وأجنداتها الانفصالية والتقسيمية".
المفارقة أن هناك عددا من الباحثين العرب لا يجد مناصا في البحث عن دراسات تتناول المجتمعات العربية من العودة إلى ما يكتب عن العرب من قبل غير عرب، وهنا نشير إلى أن الكثير من الكتابات العربية "الرصينة" كتب من قبل كتاب غير عرب؛ نظرا لعقود من تواضع مستوى الأكاديمية العربية، خاصة في العلوم الاجتماعية والإنسانية وغياب الحريات الأكاديمية والديقراطية بشكل عام، فالدولة القطرية العربية اهتمت بقضية الأمن القطري وما يتطلب ذلك من وضع قيود على ما يكتب، خاصة إن كانت الكتابات العربية نقدية.
وبنظرة سريعة لمقارنة الأكاديمية الإسرائيلية مع نظيرتها العربية نكشف مدى تقدم الأولى على حساب الثانية، ويظهر ذلك من خلال التصنيفات العالمية للجامعات والتصنيفات الدولية لترتيب مراكز الثنك تانك، فإسرائيل متقدمة في الحالتين. في المجمل لا يمكن أن نقول إن الدراسات العربية في إسرائيل موضوعية، بل هي مجندة، لكن المدرسة البحثية الإسرائيلية استعملت الأدوات البحثية الاستشراقية بغية دراسة المجتمعات العربية، في حين أخفق الباحثون العرب في دراسة مجتمعاتهم؛ نظرا للعوامل سالفة الذكر لعقود طويلة. والأدهى أن الدراسات الإسرائيلية في العالم العربي - كما يكشف كتاب بعنوان "الاستسرال" كتب باللغة الإنجليزية ونشر عام 2009 في لندن - لم تتطور وبقيت أسيرة متطلبات الصراع العربي بشكل تعبوي وبقيت تعاني ليومنا هذا في جلها قصورا منهجيا؛ نظرا لسيطرة الأيديولوجيا والخلط بين العلم والأيديولوجيا.
وبالعودة إلى الموضوع الرئيس، نقول إن مركز ديان يلعب دورا كبيرا في هذا المضمار، لكنه في المقابل قلما نجد مراكز عربية تعمل على إنتاج معرفة منهجية مضادة، إن جاز التعبير. لهذا السبب نجد أن ما ينشره مركز ديان يلقى اهتماما غربيا كبيرا، وينعكس في كثير من الأحيان على الفهم الغربي للمنطقة، في حين أن ما ينشر عن العرب من قبل العرب يبقى في كثير من الأحيان محصورا في المحيط العربي ولا يخترق المؤسسة الأكاديمية الغربية. وحتى الكثير من الباحثين العرب الذين يعملون في مراكز بحثية غربية نجدهم يعملون وفقا لأجندات بحثية غربية بغية التعرف أكثر وأكثر على المجتمعات العربية، ونشير أيضا في هذا السياق إلى أن التمويل الأجنبي لمراكز الدراسات العربية ومؤسسات المجتمع المدني يتم وفق أجندات المانحين السياسية والبحثية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي