نظام الحكم لا يستورد
يا له من عام ميلادي عنيف، استهلّنا بظاهرة ما كنا نتوقعها, وأحداث لم نتصورها, ولو قيل إنها ستحدث ما صدقناها، أتت غريزية، مسقطة جدار الخوف، ومعلنة مطالبها، تريد نظاما ديمقراطياً!
انتفاضات، هبّات، فورات، أو ثورات..؟ أياً كان الاسم .. حدثت دون زعيم ملهم، أو قائد أوحد كما تعودنا! ولم تكن ''عملية عساكر'', بل ثوره شعبية، تمْقُت نظامهم وحكّامهم وحكوماتهم .. يقولون ارحلوا .. ويقول شيبهم هرمنا في انتظار هذه اللحظة التاريخية. إنها ثورات عقول وليست للبطون .. السؤال: ثورة من دون زعيم أو قائد كيف ستحقق أهدافها؟ من ذا الذي سيترجم الرؤية إلى واقع؟ للوصول إلى نظام الحكم الأحسن! ما دار ويدور في اليمن وليبيا الفوضى بعينها .. إنهم يبحثون كذلك عن بديل .. عن نظام حكم آخر!
ملكيات تاريخية عتيدة، أسقطوها بانقلابات دموية, وكان البديل شيوعية هنا، ودكتاتورية هناك، قام بها عساكر الرتب الصغيرة بثقافتهم المتواضعة، لم يكونوا مؤهلين للحكم، ولهذا لم يحسنوا إدارته. وكثر الصراع بينهم، وتعاقبت انقلاباتهم على بعضهم، وأساءوا استعمال المال والسلطة؛ حُكْمهم غالباً ما كان متسلطا، فاسدا، يحتقر المواطن، يعتبره كالقطيع. ودارت الأيام وانقلب السحر على الساحر، وقام الشعب بإزالة البعض، والبعض الآخر في طريقه.
حتى أواخر الستينيات كان العالم العربي ''إعلامياٍ'' يُقسّم إلى ''رجعي'' أي ''الملكيات .. أي نحن''، وتقدمي أي هم .. الانقلابيون، وفي الثمانينيات عُكس الوضع؛ لنكون الدول المستقرة، وهم الدول المحبِطة. عند ما دُعي إلى مظاهرات عامة في مدن المملكة ليوم الجمعة 11/3/2011؛ لم تجد تجاوبا عاما، أو شعبيا، أو تأييدا من المواطنين، بل أيدوا دولتهم.
يذكر أن الملك إدريس السنوسي، الذي انقلب عليه القذافي منذ ما يزيد على 40 عاما, كان واقفا عند شرفة قصره يشاهد الحشود المتجمعة ويسأل مرافقيه: ماذا يقول الشعب؟ لأن الملك إدريس ـــ رحمه الله ـــ كان كبيرا في السن ولا يسمع جيدا. أخبره أحد المرافقين بما يقولون: نريد إبليس ولا إدريس .. فكان جواب الملك ـــ رحمه الله: اللهم آمين .. اللهم آمين, وكان لهم ما أرادوا .. 40 عاما قذافيا ''إبليسيا''عانوا منه أنواع الذل والهوان والقتل، ونهب الأموال وثاروا لإسقاط هذا النظام بحثاً عن نظام أحسن!
هذه الثورات المباغتة تؤكد أن هذه الشعوب ما زالت تبحث عن نظام حكم! جربوا جميع أنظمة الحكم الموجودة في القواميس؛ من خلافة، ولاية، وملكيات، مرورا باستعمار واحتلال وحماية، حاولوا الشيوعية وأختها الاشتراكية، والديمقراطية .. أي الحزب الواحد.. أي ''الدكتاتورية المقنعة'', ولم ينجحوا في أي منها. إن التسوق في فاترينات الأنظمة ''غربية كانت أو شرقية'' لنظام ما, لا يعني نجاح تطبيقها، مثلها مثل التقنيات من سيارة وتلفاز، لا تنجح إلا إذا تفاهمت معها حسب كاتلوجها .. وكما تطبق في بلادها. أما خلجنتها أو تعريبها أو أسلمتها؛ أو أخذ جزء وترك الآخر، أو مزجها، فهذا الفشل بعينه.
الأنظمة هي حصيلة تاريخية لمخاض الشعوب بمكوناتها وخصوصياتها وتناقضاتها، وحصيلة تجاربهم .. طبخت على نار هادئة عبر القرون. الأنظمة ليست أماني ولا أحلاما، لا تُقْترض، ولا تُسْتعار .. الأنظمة نتاج وإفراز ما اتفقت عليه المتناقضات المحلية.
الديمقراطية ليست اسما لنظام سياسي بعينه، إنما هي متطلب إنساني، يتحقق عندما تتوافر عناصر: الحرية والعدالة والمساواة ومراعاة حقوق الإنسان في أي نظام .. إنها ليست موقوفة على نظام بعينه ـــ برلماني أو رئاسي. الأنظمة الأخرى التقليدية والموروثة، ليس لديها محظور ولا محذور تجاه هذه العناصر لأن وجودها ــ كان لهذا الغرض.
خليجنا نظامه قبلي موروث، بلورته طبيعة البيئة واقتصادياتها، ونسيجها الاجتماعي وخصوصياته، واتفقت عليها مجتمعاتنا ''قبلية كانت أم حضريةً'', وبايعهم الآباء والأجداد عبر القرون, ومن هنا اكتسب هذا النظام شرعيته التاريخية ''كعقد اجتماعي غير مكتوب''. عاش أجيالنا وتعايشوا لقرون معه، أنضجته التجارب والاختلافات والنزاعات والغزوات والحروب، ومخاض مستمر من أقلمة وتأقلم لبلورته.. وكان الأمن والأمان وحرية الاقتصاد وتطبيق ''العدالة'' شروط البيعة وركائز هذا النظام. لهذا لدينا نظام علينا تطويره!
لهذا ــــــــــــ العائلات الحاكمة في الخليج ليس حدثاً طارئا، ولا مؤقتا، بل قديمة وعريقة .. بل لقرون. كان لهم الدور الأساسي في توحيد البلاد، وحماية الأرض في أزمنة لم يكن هناك من بديل. العائلات الحاكمة مع عامل الوقت والممارسة الطويلة وبما حققوه وكسبوه من شرعية وإنجازات، تحولوا إلى مصطلح مؤسساتية ومراكز قوى، بل تيارات سياسية وطنية، أكثر منها أفراد أو عائلات, لهذا فهم عنصر مركزي في المعادلة السياسية المحلية وفي مقدمة أصحاب القرار لحماية هذا النظام وتطويره!
ما يحدث في البحرين يشكل تحديا لنظامنا الخليجي، واستهدافا لتركيبتنا التاريخية، أمر كان معداً له في ليل وليس معزولا، بل مدروسا ومن الخارج مدعوما. رد الفعل القادم البحريني والخليجي وطبيعته يجب أن يكون له ما بعده وأن يعيد الأمور إلى مسارها الطبيعي.
لا شك أن الحداثة ورياح التغيير والتقنية التي تجتاح المنطقة، اجتماعية كانت أو سياسية واقتصادية، تتطلب الكثير من التغيير والتطوير في نظامنا نحو مساحات أكثر لحقوق المواطن، وحدود أدق لصلاحيات الحاكم .. هذا أو غيره من النقص والنواقص يمكن استكمالها وتطويرها من الداخل، ضمن نظامنا .. وليس بإلغائه, ولا حتى مزجه بغيره، ولا نعتقد أن نظاما كهنوتيا كما إيران بديل.
العيب ليس في نظامنا؛ بل العيب فينا، نحن الذين لا نستقرئ تغيّرات المستقبل مبكراً لنستعد لها، ولا نتابع تقييمنا للتغيير والتّغيرات التي تغشى مجتمعنا ومكوناته .. التغييرات تفاجئنا وليس العكس .. عندئذ يكون التغيير عسيراً ومكلفا.