الإنفاق على البحث والتطوير ودوره في تحقيق التنمية المستدامة
يعتبر الاستثمار في البحث والتطوير ومراكز التفكير الإبداعي Think Tanks من أهم محفزات النمو الاقتصادي المستدام وترشيد القرارات الاستراتيجية لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي المنشود. فالإنفاق على البحث والتطوير على جميع المستويات التقنية والاجتماعية سيرفع من مستوى التقنية السائد في الاقتصاد ويحسن من الإنتاجية ويسهم في تفادي المشكلات التي قد تواجه الدولة بسبب الأداء السيئ للقطاعات الاقتصادية أو القرارات غير الرشيدة بسبب القرار الفردي في اتخاذها على المستوى القطاعي أو الكلي. كما تدعم متخذ القرار في الدولة بالدراسات والأبحاث اللازمة التي تسهم في وضوح الرؤية على المديين البعيد والمتوسط، في ظل المتغيرات المحلية والدولية.
فالبحث والتطوير يشكلان أهم أساسيات النمو الاقتصادي المستدام والتميز العالمي والقدرة الريادية عالميا. فقد أثبتت الدراسات المتخصصة علاقة بين النمو الاقتصادي وما يتم إنفاقه على البحث والتطوير كنسبة من إجمالي الدخل القومي، والذي يعتبر المتوسط العالمي للدول المتقدمة اقتصاديا 2.5 في المائة . فعلى سبيل المثال فإن كوريا الجنوبية تنفق ما يعادل 3 - 3.5 في المائة من إجمالي الدخل القومي على البحث والتطوير والذي بدوره كان له أكبر الأثر، إضافة للمتغيرات السياسية في نقل الاقتصاد الكوري من اقتصاد مقلد ونام إلى دولة صناعية ومبتكرة. فكوريا في الستينيات الميلادية تعتبر دولة متخلفة اقتصادياً والمنتجات الكورية رديئة ومقلدة، بينما الآن كوريا من الدول الصناعية التي تنافس تقنيا على المستوى العالمي؛ داعمها الأساسي البحث العلمي.
البحث والتطوير لا يقتصران على القضايا التقنية فقط بل يشملان كذلك القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنعكس في قرارات مصيرية تسهم في وضوح الرؤية لمتخذ القرار السياسي والاقتصادي في البلد وتحديد استراتيجيات البلد طويلة الأجل ومعالجة المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعاني منها.
وقد اهتمت نظريات النمو الاقتصادي المختلفة بهذه العلاقة بين النمو الاقتصادي والإنفاق على البحث والتطوير في الاقتصاد. لذا ربطت بعض الدراسات في نظريات النمو الاقتصادي سبب تخلف الدول النامية اقتصادياً مقارنة بالدول الصناعية بمستوى التطور التقني الذي يعتبر متخلفا في الدول النامية مقارنةً بالدول الصناعية نظراً لتدني الإنفاق على البحث والتطوير في الدول النامية أو انعدامه، كما أنه من الأسئلة المهمة التي تحاول نظريات النمو الاقتصادي الإجابة عنها هو هل الدول الفقيرة فقيرة لنقص عوامل الإنتاج أو بسبب تخلف التقنية في تلك الدول؟ حيث أرجعت بعض الدراسات سبب تباين الدخل للفرد بين الدول إلى فجوة التقنية المرتبطة بالإدارة الرشيدة والإنفاق على البحث والتطوير.
فالتطور التقني يؤثر في النمو الاقتصادي من عدة أوجه، حيث إن تحقيق نمو مستمر في الأجل الطويل يعتمد على النمو في التقنية، كما تتأثر الإنتاجية الحدية لرأس المال والعمل بالنمو التقني. ومن الآثار الإيجابية التي تتحقق بالتطور التقني أن النقص في عدد الأيدي العاملة أو رأس المال قد يعوضه التطور التقني. إضافة لما سبق فإن العلاقات البينية بين قطاعات الاقتصاد المختلفة تتأثر بالتقنية المتاحة، على الرغم من أنها لن تستفيد بالدرجة نفسها من التطور التقني.
فإجمالي الناتج الكلي قد ينمو بشكل مستمر إذا كان هناك تطور تقني وإن لم يحدث نمو في زيادة رأس المال أو العمل. وبالتالي فإن اعتماد النمو الاقتصادي في الناتج الإجمالي على العمل ورأس المال فقط لن يحقق للاقتصاد النمو المستمر بسبب تناقص الإنتاجية الحدية. لذا يجب الاستثمار في التقنية، والذي جزء منه هو الاستثمار في البحث والتطوير، من أجل المحافظة على نسبة العائد المتحقق على رأس المال والعمل أو زيادته. فعدم الاستثمار في التقنية والذي ينتج عنه انعدام النمو في التقنية سيؤدي إلى انخفاض النمو الاقتصادي نظرا لتناقص الإنتاجية في رأس المال والعمل والتي لا يمكن المحافظة عليها إلا من خلال التطور التقني . كما أن التطور التقني يزيد من الطلب على العمال المهرة ذوي الأجر المرتفع ويقلل الطلب على غير المهرة. فعلى سبيل المثال، ازداد أجر خريجي الجامعات في الولايات المتحدة مقارنةً بخريجي الثانوية العامة بأكثر من 25 في المائة بين 1979 و1995 وذلك بسبب التطور التقني الذي يشهده الاقتصاد الأمريكي والذي يتطلب لإنجازه عمالة مهرة.
وبدراسة واقع الإنفاق على البحث والتطوير في المملكة، والذي لا يتجاوز 0.2 في المائة من إجمالي الدخل القومي، نجد أنه منخفض مقارنة بالمتوسط العالمي، إضافة أن ما يتم إنفاقه على البحث والتطوير لا يستفيد منه الاقتصاد المحلي لإنفاقه على باحثين خارج المملكة أو مراكز متخصصة في الخارج. كما أن المملكة لا تتوافر فيها مراكز تفكير إبداعي مستقلة سواء حكومية أو خاصة، ويكتفى بما تقوم به الأجهزة الحكومية من تقارير لاتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأجل. ونرى ذلك في القرارات التي تصدر من الجهات الرسمية والتي في الغالب لا تتلمس ما يتطلع له المواطن بشكل دقيق ولا تعالج الحاجيات الأساسية للمجتمع ويتم اتخاذ كثير من القرارات تحت ظروف آنية. فبسبب غياب الأبحاث الرصينة من مراكز بحثية مستقلة ومراكز التفكير الإبداعي، تصدر قرارات حكومية نجد بعد فترة زمنية خطأها وتأثيرها السلبي في المجتمع ويتم إلغاؤها واستبدالها بقرارات أخرى يتم طبخها بنفس الطريقة مما يجعلها عرضة للخطأ بنسبة عالية جدا.
إن من أهم أسباب الانخفاض الشديد لما يتم إنفاقه على البحث والتطوير في المملكة بسبب غياب الوعي على مستوى القطاع الحكومي أو الخاص بأهمية البحث والتطوير على المستوى الكلي والقطاعي وعلى أرباح الشركات في الأجل الطويل. حيث إن العائد من البحث والتطوير هو في الغالب عائد اجتماعي وخاصة في القضايا الاجتماعية، فإن قيام الحكومة بدعم مباشر للبحث والتطوير وإنشاء المراكز المتخصصة سيساعد على معالجة كثير من قضايا المجتمع ويسهم في توفير الدراسات اللازمة التي تدعم صنع القرارات المصيرية التي تحتاج إلى دراسات متعمقة ومراكز متخصصة تدرس جميع أبعادها على المواطن. كما أن ربط البحث والتطوير بالجامعات المحلية الحكومية والخاصة سيسهم في تشجيع الاستثمار على تطوير القدرات البحثية لدى أعضاء هيئة التدريس لينعكس على رفع مستوى التعليم الجامعي، كما يوفر للمملكة قدرات متخصصة في شتى المجالات تنعكس آثارها على جميع قطاعات الاقتصاد العام والخاص والتي تحسن الإنتاجية وترفع من كفاءة الأداء.