ماذا بعد رأس المال البشري والبنية التحتية والإدارة الرشيدة
خلال العقدين المنصرمين، كان هناك إجماع بسيط يتشكل حول ما ينبغي على البلدان عمله لرعاية التنمية والنمو والاقتصاديين. ويدور الإجماع حول صيغة من ثلاث ركائز تمثل القاسم المشترك الأصغر بين الخبراء الاقتصاديين في التنمية.
تتعلق الركيزة الأولى بأهمية تطوير رأس المال البشري لهذا البلد أو ذاك، ذلك أن رأس المال البشري يدعم النمو الاقتصادي، ويسهم إسهاماً كبيراً في زيادة إنتاجية العمالة. ويعتبر رأس المال البشري مهماً أيضاً للابتكار واستيعاب الأفكار والأساليب من أنحاء العالم، ولا يمكن لأي بلد أن يتوقع أن ينمو بسرعة، ويستمر في النمو والمنافسة على الصعيد العالمي من دون أن يترافق ذلك مع التزام من حكومته بالاستثمار في رأس المال البشري. لا غرابة إذن أن نعلم أن العالم يستثمر نحو 4.6 في المائة من ناتجه المحلي الإجمالي في التعليم، وهناك من يقول إن بلداناً مثل كوريا الجنوبية، وإيرلندا، وسنغافورة، مدينة بوصولها إلى منزلة البلدان المتقدمة إلى مستويات استثمارها العالية في التعليم وفي رأس المال البشري.
والركيزة الثانية هي البنية التحتية المادية، فهي عامل تمكين مهم للنشاط الاقتصادي، وشرط مسبق للاستثمار الداخلي، والتجارة والأنشطة المنتجة. وقد استثمرت الحكومات عبر العالم خلال العقود الخمسة الماضية في بناء البنية التحتية التقليدية كشبكات النقل، وأنظمة المجاري، وشبكات الكهرباء. إن هذا التوجه مستمر، حيث يتوقع تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تنمو الاستثمارات العالمية في البنية التحتية خلال الـ20 عاماً التالية إلى نحو 70 تريليون دولار أمريكي. وفي الآونة الأخيرة سارعت البلدان إلى الاستثمار في بنى تحتية جديدة مثل شبكات الموجات العريضة فائقة السرعة، وفي أنظمة اتصالات الجيل الثالث من الهواتف الجوالة التي بلغت بحلول عام 2008 نحو 5.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للعالم.
أما الركيزة الثالثة فهي الأكثر صعوبة: إنها الإدارة الرشيدة، وتتراوح هذه من وجود مؤسسات قطاع عام تتسم بالكفاءة والشفافية إلى وجود قوانين خاصة بحقوق الملكية الفكرية، وقانون عادل للمنافسة ونظام قضائي مستقل.
لا يوجد شك في أن هذه الصيغة المكونة من ثلاث ركائز ستساعد كثيرا من البلدان في تعبئة مواردها بكفاءة أكبر. لكن عدداً من المشكلات ينشأ عندما يبدأ المرء باستخدام هذه الركائز كوصفات جاهزة للتنمية الاقتصادية.
أين تكمن أوجه القصور
في هذه الركائز الـ 3
لنبدأ في الاستثمارات في البنية التحتية، ففي حين يرى اقتصاديو التنمية في البنية التحتية عامل تمكين رئيسي للنمو الاقتصادي، ينظر إليها صناع السياسات كدافع للنمو الاقتصادي قصير المدى ويستثمرون فيها على هذا الأساس. ومنذ عهد قريب جداً، استفادت كل من البنية التحتية الجديدة والتقليدية من موجات الاستثمارات الجديدة عندما حاولت الحكومات أن تخرج من الركود العالمي. لكن هذه الاستثمارات غالباً ما تكون موجهة نحو النمو الاقتصادي قصير المدى دون النمو الاقتصادي طويل المدى. وفي بعض الحالات، ليس من الواضح ما إذا كانت هناك حاجة فعلية لرفع سوية البنية التحتية، ولإعطاء مثال على ذلك، فإن 82 في المائة من سكان الولايات المتحدة يتركزون في المدن والضواحي، فما هو الأثر الذي سيخلفه تحسين وصول الريف الأمريكي إلى الإنترنت على نموه الاقتصادي؟ وما لم تكن هناك أدلة واضحة على أن مزيداً من الناس سينتقلون من المدن إلى الريف نتيجة لهذا التحسين، فإن أثر الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية الخاصة بالموجة العريضة على نمو الاقتصاد الريفي سيكون كئيباً.
لقد اتبع الاستثمار في رأس المال البشري منطقاً مشابهاً، وأصبحت معادلته أن مزيداً من التعليم يعني مزيداً من التعليم العالي. لقد ازداد الطلب على التعليم العالي في أجزاء كثيرة من العالم، وأصبحت الجامعات مكتظة، والعاملون فيها مرهقون، وتراجعت نوعية الخريجين. ويقف الوضع في المملكة المتحدة حالياً شاهداً على هذه السياسات. فقد أنتجت أعواما من سياسة حزب العمال الجديد المتمثلة في توجيه أعداد أكبر من الناس للتعليم العالي تخمة من الخريجين في سوق العمل، وشكلت ضغطاً على طاقة جامعات المملكة المتحدة. وفي البلدان النامية، الوضع أكثر سوءاً. ففي الأردن ومصر وأجزاء كبيرة من العالم العربي، إما أن تكون أعداد كبيرة من خريجي الجامعات من دون عمل، أو تعمل في وظائف أقل من مستواها أو تهاجر. وفي الحقيقة، فإن زيادة المعروض من خريجي الجامعات أخرج أعداداً كبيرة من غير خريجي الجامعات من سوق العمل، ودفع مداخيل البقية إلى الحضيض.
إن الإدارة الرشيدة أمر مهم، وما زال يتعين على البلدان النامية خاصة، أن تقوم بخطوات طويلة على هذا الصعيد. لكن الافتقار إلى الإدارة الرشيدة لا يفسر النمو الذي تحققه الصين، وفيتنام، أو روسيا والهند بخانتين عشريتين، إلا إذا كانت كلمة ''رشيدة'' تعني شيئاً آخر، ربما يتماشى أكثر مع تعريفي الخبير الاقتصادي في جامعة هارفارد داني رودريك، أو المحرر في صحيفة فاينانشال تايمز آلان بيتي. يؤكد رودريك استقرار هياكل الإدارة وقدرتها على التوقع في أحد الاقتصادات وليس على كفاءة أداء هذه الهياكل، بينما يؤكد بيتي فعالية مؤسسات البلدان، وليس على شفافيتها وصحتها.
ويبدو أن شركات العالم النامي لديها فهم أفضل بكثير للإدارة الرشيدة، فشركات الاتصالات الصينية، والهندية، والعربية ناشطة وناجحة جداً في مناطق مثل إفريقيا وآسيا الوسطى التي يفترض أن تكون الإدارة الرشيدة عملة نادرة فيها. ويبدو أن المستثمرين مدفوعون بالفرصة أكثر من الإدارة الرشيدة، ويبدو أن الحكومات الجيدة تعرف ذلك وتأخذه بعين الاعتبار، بينما تحاول إغراء المستثمرين الأجانب بالاستثمار في اقتصاداتها. وما لم يكن هناك حظر تفرضه الأمم المتحدة على بلد ما، فإن المستثمرين الأجانب يميلون إلى التوجه إليه بناء على ترتيبات واتفاقيات خاصة مع حكومة البلد المضيف، ومن دون أن يطالبوا بإصلاحات كبيرة على ثقافتها وهيكلها الإداري.
وبينما تعتبر البنية التحتية، ورأس المال البشري والإدارة الرشيدة أموراً بالغة الأهمية، فإن السؤال الذي يراود كثيراً من صناع السياسات من كندا إلى سنغافورة اليوم هو: ماذا بعد؟ إن الاقتصادات المتقدمة التي تنعم بمستويات عالية من رأس المال البشري، والبنية التحتية والإدارة الرشيدة تجد نفسها بصورة متزايدة في حالة من الركود. وفي إحدى المرات، عبر وفد فنلندي زار لندن عن هذا الأمر على النحو التالي: رغم الضجة التي تثار حول استثمار فنلندا في البنية التحتية، ورأس المال البشري، والإدارة الرشيدة، ما زال البلد يحتل مركزاً متوسطاً في تصنيفات الاتحاد الأوروبي للناتج المحلي الإجمالي للفرد.
فجوة الفعالية
لا يوجد جواب مباشر ومن المحتمل أن يكون كل بلد بحاجة إلى الجواب الخاص به لكن إحدى النواحي الجديرة باهتمامنا هي الفعالية. تميل البلدان التي لديها مستويات متشابهة من التنمية الاجتماعية/ الاقتصادية إلى جانب البنية التحتية المناسبة لعرض مستويات مختلفة من الأداء الاقتصادي. إن فجوة الإنتاجية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هي دائماً لصالح الأخيرة. ولدى أوروبا الشمالية مستويات إنتاجية أعلى من أوروبا القارية والمتوسطة. وقد بدأت ماليزيا وكوريا بمستويات متشابهة من التنمية البشرية، ولكن بهبات مختلفة من الموارد الطبيعية (ماليزيا كانت أغنى). وقد استثمر كل البلدان في البنية التحتية، ورأس المال البشري، والمؤسسات الجيدة، لكن كوريا الجنوبية مع ذلك تمكنت من أن تنمو بصورة أسرع.
إن الفعالية لغز مهم ينبغي اكتشافه. لماذا يحقق بعض البلدان فائدة أفضل من رأسمالها البشري ومن بنيتها التحتية المادية والاجتماعية من البلدان الأخرى؟ لماذا تستفيد إحدى القرى من الربط بالموجة العريضة أكثر مما تستفيد القرى الأخرى؟ ولماذا يستفيد أحد البلدان من المواهب العديدة بينما تسمح البلدان الأخرى لأصحاب المواهب بمغادرة البلد، إن فجوة الفعالية هذه تظل لغزاً محيراً إلى حد بعيد.
وقريباً من مجال السياسات، هناك حاجة واضحة إلى تناسب أفضل بين الاستثمار في البنية التحتية المادية والاجتماعية والفرصة. إن الأسلوب القائم على مبدأ قم ببنائها وسيأتون بالنسبة للاستثمار يعتبر منصة لتوليد حالات من عدم الفعالية في اقتصاد ما. إن البنية التحتية، والتعليم والإدارة الرشيدة عوامل تمكين، وليست دفعا للتنمية الاقتصادية، وعليه، ينبغي على البلدان أن تربط استثماراتها في البنية التحتية ورأس المال البشري بفرص النمو المحددة وحيث ستصنع القدرة الموسعة والمحسنة فرقاً حقيقياً.
الكاتب مدير مبادرة الابتكار والسياسة في إنسياد ويوجد مقره في حرم الجامعة في أبوظبي.