بروز المجتمع الثاني نتيجة ثورات الشباب العربي
التغيرات المفاجئة والسريعة التي اكتسحت العالم العربي على مدى الأشهر القليلة الماضية أخذت العالم على حين غرة. فجأة تعرض الوضع القائم للتحدي، وحلت الهواتف الخلوية والاتصال عبر الإنترنت والحساب على فيس بوك، حلت محل الشروط المسبقة للتغيير، التي طال عليها الأمد.
هذه لحظة فريدة، من حيث إنه لا يوجد على رأسها زعماء من ذوي الشخصيات الساحرة، وإنما هي اندفاع مفاجئ للرأي شاع بين الناس. بمعنى أن هذه الأحداث تمت على أيدي أناس كثيرين ولم تكن اتباعاً أو لحاقاً بشخص واحد.
خلال عدة عقود، لم تعتقد الحكومات الغربية وطبقة المفكرين التي تقف وراءها أن الظروف اللازمة للتغيير الديمقراطي كانت موجودة في العالم العربي. السبب في ذلك هو أن الإسلام، وهو دين الأغلبية الذي يهيمن على الثقافة والتقاليد الاجتماعية في العالم العربي، بحاجة أولاً إلى أن يتم إصلاحه قبل أن يكون من الممكن حدوث ثورة ديمقراطية. لهذا السبب، أطلقت معظم البلدان الغربية الكبرى شبكات للتلفزيون والراديو ناطقة باللغة العربية، وأنشأت برامج مخصصة للتبادل الثقافي وبرامج للأبحاث، وعين كل بلد مبعوثاً خاصاً إلى المنطقة، على أمل أن تساعد هذه الخطوات على إحداث التغييرات الثقافية اللازمة لإحداث التغير الديمقراطي.
وقد كانت الحكومات العربية بصورة واسعة موافقة وتشعر بالحبور من فكرة أنه كان من السابق لأوانه بالنسبة للمجتمعات العربية أن تتبنى الديمقراطية. وبدلاً من ذلك كان كثير من الحكومات يسعى إلى إحداث التغيير من خلال تبني وتشجيع ثقافة استهلاكية. وقد استخدمت الحكومات سلطاتها لخلق طبقة متوسطة مرتبطة بها على أساس المصالح المادية المشتركة. بالتالي تم إنشاء مجمعات جديدة للتسوق، وفنادق من فئة 5 نجوم، ومجمعات سكنية خاصة ببوابات، منتشرة عبر معظم العالم العربي ومملوكة في معظمها من النخب ومرتبطة بطريقة أو بأخرى بالأشخاص الموجودين في السلطة.
من جانبها سعت المجموعات المتشددة والمتطرفة بصورة نشطة لتخريب سياسات الحكومات الموجودة في السلطة من خلال التشدد وطريقة عمل قائمة على العمل تحت الأرض فكانت تهاجم السياح أو تأخذهم كرهائن، وكانت تفجر الفنادق. وقد ساعدت الإنترنت والأقمار الصناعية والمكالمات الهاتفية عبر الإنترنت هذه الجماعات على تنظيم وإنتاج وتوزيع مواد دعائية، لكنها ظلت بصورة واسعة غير ناجحة، وذلك بالنظر إلى آرائها المتشددة والمتطرفة، التي لم يكن يتقبلها إلا مجموعة صغيرة للغاية من الناس. لعدة عقود كانت عيون وأفكار المحللين المهتمين بالعالم العربي مركزة على ثلاثة لاعبين وطريقة التفاعل فيما بينها، وهم: الحكومات الغربية، والحكومات العربية، والمجموعات المتشددة. وعلى الجوانب، أو على الهامش، كان هناك ’مجتمع ثان‘ يبرز إلى حيز الوجود، وهو مجتمع كان مهمَلاً إلى حد كبير ولم يلتفت إليه أحد، وأعني به ''مجتمع الشباب العربي''، الذي بلغ ذروته في عدد من البلدان ليصبح ''حركة الشباب العربي''.
الانتفاخ السكاني
خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، ارتفع عدد السكان في العالم العربي إلى أكثر من الضعف، حيث ازداد من 173 مليون نسمة في عام 1980 ليصبح 352.2 مليون نسمة في عام 2009. ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، ومع افتراض الاستمرار في تراجع مستويات الخصوبة، فإن من المتوقع أن يصل إجمالي عدد السكان في الوطن العربي إلى 428.4 مليون نسمة بحلول عام 2020. ومعظم هؤلاء الناس دون سن الرابعة والعشرين ويعيشون في المدن. ومن المتوقع أن يزداد ''انتفاخ عدد الشباب'' ليصبح 73 مليون شخص في عام 2015. وهذا أمر مهم، على اعتبار أن بعض الدراسات تشير إلى أن البلدان التي يشكل فيها الشباب أكثر من 40 في المائة من السكان الذين بلغوا سن العمل هي البلدان الأكثر ترجيحاً لأن تشهد نزاعات مسلحة من البلدان التي تشتمل على نسبة أقل من الشباب.
وقد عمل الانتشار السريع للجامعات الجديدة عبر أرجاء المنطقة إلى خلق فضاءات جديدة يستطيع فيها الشباب الالتقاء والاختلاط.
وشهدت العقود الثلاثة الأخيرة اندفاعاً في التعليم العالي في الوطن العربي، إلى جانب خصخصة وتدويل نظام التعليم الثالث في البلدان العربية (أي التعليم في المرحلة المباشرة بعد الثانوية). وفي تقرير نشر في عام 2008 من قبل المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان التصدير، كشف النقاب عن أنه كانت هناك زيادة في عدد الجامعات في البلدان العربية من 233 جامعة في عام 2003 إلى 385 جامعة في عام 2008، بما في ذلك 115 جامعة خاصة (وهذا الرقم يعادل تقريباً 4.4 مرات الرقم الخاص بعام 1993). ووفقاً للتقرير نفسه، فقد شهدت تونس أعلى زيادة في عدد الجامعات (تضاعف الرقم الخاص بتونس من 22 جامعة إلى 44 جامعة، بما في ذلك 31 جامعة خاصة). وفي حين أن المحللين التربويين والمحللين الاقتصاديين الاجتماعيين كانوا مشغولين بتوجيه الانتقادات إلى نوعية وكمية الناتج لهذه الجامعات، إلا أن الشباب العربي كان يعثر على منافع عديدة من وجوده في الجامعة، مثل وجود فضاء جديد للارتباط، والتواصل، وتبادل الأفكار والمشاعر. ولم تعد أماكن العبادة هي الفضاءات الوحيدة للتجمعات القانونية. وبصرف النظر عن مدى الرقابة التي كانت تمارس على الجامعات، استطاع الشباب العربي بصورة متزايدة أن يجد مجالات جديدة تفوق ما كان متوافراً للأجيال السابقة كأماكن للقاء والاختلاط.
الفضاء الإلكتروني هو مكان ثان لالتقاء الشباب
أدى الانتشار الواسع والسريع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات في البلدان العربية إلى إضافة فضاء جديد هائل للارتباط والتواصل وتبادل الأفكار. كذلك فتحت هذه التكنولوجيات مجالات جديدة لمتابعة التعليم العالي والتدرب من خلال برامج التعلم عن بُعد في المؤسسات الأجنبية. وقد سمحت الإنترنت للشباب العربي بالالتقاء والاختلاط عبر مواقع فيس بوك وماي سبيس. ليس هذا فحسب، ولكنها أعطتهم الفرصة لأن يطوروا ويتبادلوا ثقافة سرية كانت تنتقل عبر الهواتف الخلوية. ومن الإشاعات والأقاويل حول الطبقة السياسية إلى تبادل الآراء السياسية والقيم التي لا تتمشى مع الدارج، وبرامج الإنترنت التي كانت بالدرجة الأولى على الهواتف الخلوية، فقد تزود الشباب العربي بفضاءات جديدة يستطيع فيها التعبير عن نفسه بحرية.
بروز المنظمات غير الحكومية ومنظمات القطاع الثالث باعتبارها مجالات مأمونة للنشاط الشبابي
شهد العالم العربي زيادة سريعة في عدد ودور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية. وقد سمحت الحكومات بهذه المؤسسات، وكان السبب في ذلك بصورة كبيرة هو توجهاتها التي تقوم على موضوع واحد وعملياتها التي لا تشتمل على المواجهات. كذلك ساعدت هذه المنظمات على اجتذاب الاستثمارات من الجهات المانحة الدولية والخاصة فيما أخفقت فيه الحكومات. وفي حين أن الأرقام الدقيقة عير متوافرة، كان من الواضح بالنسبة لأي شخص منخرط في هذا القطاع في العالم العربي أن يرى مدى جاذبيتها بالنسبة للنوعية الرفيعة من المتطوعين والعاملين الشباب في العالم العربي. وقد أدى توسع هذا القطاع إلى إعطاء فضاء جديد آخر للشباب العربي لتطوير الوعي والتعبير عنه بخصوص القضايا المهمة التي تؤثر في مجتمعاتهم. إضافة إلى ذلك، فإن العمل مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الأخرى في القطاع الثالث أعطى الفرصة للشباب للاطلاع والتعامل مع مجتمع القطاع الثالث في مختلف أنحاء العالم.
بروز ''المجتمع الثاني''
كانت النتيجة هي بروز ما يعرف باسم ''المجتمع الثاني''، وهو مصطلح وضعه عالم الاجتماع المجري إلمر هانكيس Elemer Hankiss، في إشارة إلى البلدان الشيوعية في أوروبا. وقد زودت الجامعات، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، والمنظمات غير الحكومية، زودت الشباب العربي بمؤسسات كانت تسير بشكل موازٍ وبصورة شبه مستقلة عن المؤسسات التي تديرها الدولة. لاحظ أن مؤسسات ''المجتمع الثاني'' غير مُحْكمة وافتراضية وذات طابع اجتماعي فرعي يضم جماعات وفئات بعينها، وهذا ما جعلها سريعة الحركة وتتمتع بالصلابة وبدرجة عالية من الكفاءة من حيث التنظيم والقدرة على تحقيق وإنجاز الأهداف. وهي تستطيع البقاء والاستمرار بميزانيات بسيطة، ولا تحتاج إلى عدد كبير من الأجهزة والمعدات، وتتطلب مستوى متدنياً من المهارات الفنية. ما يثير المفارقة هو أن البنية التحتية والخدمات التي تساند مؤسسات ''المجتمع الثاني'' كانت مملوكة من قبل أشخاص في الحكومة أو مقربين منها. وهذا جعل من الصعب على الحكومات أن تحد من نشاطاتها أو أن تقوم بإغلاقها. كانت البنية التحتية التي تقوم عليها مؤسسات ''المجتمع الثاني'' ذات طبيعة ثنائية مرنة، ومملوكة من قبل أشخاص كانوا ينتفعون من الوضع الراهن، لكنها كانت تخدم أناساً كانوا يشعرون بصورة متزايدة بخيبة الأمل واليأس من الوضع الراهن نفسه.
وعلى الإنترنت ازدهرت ونمت ثقافة بديلة من ''المجتمع الثاني''، من الموسيقى البديلة تحت الأرض والأفلام القصيرة على الإنترنت، إلى التغطية التي لا تطولها سلطات الرقابة للأحداث الجارية من الشوارع عبر موقع تويتر. وقد سمحت مؤسسات ''المجتمع الثاني'' لجزء مهم من التفاعلات الاجتماعية بالإفلات من سيطرة الحكومات. كما أن المجموعات الصغيرة من الأشخاص المنظَّمين ذاتياً من ذوي الميول المتشابهة خلقوا جزراً مستقلة من الاستقلال الذاتي التي كانت قادرة في نهاية الأمر على نسف الهيمنة التي تتمتع بها الدولة وأحدثت التغيير المطلوب.
يغلب على أنماط الثورات أن تكون متشابهة، وتركز على صعود وهبوط زعمائها، والانحدار نحو الفوضى وانعدام القانون، وأخيراً ظهور نظام جديد، لا يكون في الغالب أفضل من النظام الذي قام بإطاحته. لكن حركة اليوم مختلفة، لأن شعبيتها الواسعة بالذات يمكن أن تجعلها غير قابلة لأن يتم اختطافها من قبل أية جماعة ذات مصالح خاصة. إنها فجر قاعدة جديدة للسلطة، ليس فقط في العالم العربي، وإنما في العالم الواسع بأسره.
رئيس مبادرة دعم السياسات الابتكارية لدى كلية إنسياد لإدارة الأعمال في أبو ظبي