الزكاة والأوقاف والمسؤولية الاجتماعية
حثت الشرائع السماوية جميعها على الخير ونبذ الشر والإفساد والإحسان إلى المعوزين في المجتمعات التي نزلت فيها تلك الشرائع عرفاناً بفضل الله على أتباعها الموسرين وفي المناصحة المشهورة لقارون ثريّ بني إسرائيل وتذكيره بفضل الله عليه قال تعالى مخاطباً قارون على لسان نبيه موسى عليه السلام "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" القصص 77. وجاء الرسل عليهم السلام قبل موسى وبعده بكل ما فيه خير لأممهم والشواهد على ذلك في القرآن الكريم كثيرة وشهيرة إلاّ أن الرسالة الخاتمة التي جاء بها المصطفى ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ وكما هو الدور المنوط بها كانت هي العهد الأخير الذي تركه الله سبحانه وتعالى لهداية البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فجمع فيها القواعد وفرض فيها الفرائض وثبّت أسسها وبذلك اكتمل الدين وتمت النعمة على بني آدم لذا لم يترك الإسلام أمر الصدقة لاجتهاد المجتهدين فضبط الزكاة بضوابط دقيقة فحدّد ممّن تجبى وكيف تجبى وعلى ماذا تفرض ومتى تستحق ولمن تصرف وترك لكل مسلم حسبما يتاح له أن يتصدق ويفوز بأجرها ولم يقصر ذلك على أصحاب الجدة والثراء بل أتاحها حتى لمن تبسّم في وجه أخيه ومن أماط الأذى عن الطريق سبق ذلك باثني عشر قرناً نظرية "المشاعر الأخلاقية" للاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث لتهذيب المبدأ الرأسمالي الذي يسعى لتعظيم أرباح المنشآت الخاصة وتقليل نفقاتها ولا يلتفت إلى معاناة الطبقات الأقل حظاً في المجتمع بل كان الإقطاعيون في أوروبا يدوسون من دونهم بلا رحمة لتحقيق ذلك المبدأ وكانت الكنائس لا تبالي طالما دفع أولئك الأثرياء وأنفقت النزر اليسير مما يأتيها على فقراء مجتمعاتها فلما طفح الكيل وزاد الاحتقان خرج الفيلسوف الألماني كارل ماركس وزميله فردريك انجلز بمبدأ شيوعية الملكية التي ناديا بها للتحرر من إقطاع الملاّك واستغلالهم العمّال بشكل ظالم وانطلقت ثورات العمال تجتاح الممالك في أوروبا الواحدة تلو الأخرى.
وفي السنوات العشر الأخيرة انطلقت مجموعة من كبار أثرياء الولايات المتحدة الأمريكية على رأسهم بل جيتس ووارن بوفيت تدعو إلى التخلي عن معظم ثرواتها لمصارف خيرية في كل أنحاء العالم من منطلق المسؤولية الاجتماعية كرد لجميل المجتمعات الإنسانية التي ساهمت في جمعهم ثرواتهم الفاحشة ومع نبل ما يقومون به إلاّ أن الإسلام مرة أخرى قد سبق بعظمته هذه المبادرة بقرون ووضع في الزكاة المفروضة الحل لتلبية المسؤولية تجاه المجتمع ابتداءً وردفها بالأوقاف وعموم الصدقات تطوعاً وجعلها عملا يؤجر عليه الواقف في حياته وصدقة جارية بعد مماته خلافاً لما يرجوه أولئك من سمعة وتقدير في الدنيا من منطلق خدمة الإنسانية خالية من أعظم مبادئ الإسلام وهو احتساب العمل عند الله خالصاً من شوائب الرياء والسمعة.
والحق أن في بلادنا نماذج من الرجال والنساء الذين ضربوا أروع الأمثال في البعد عن الشح الذي يعتور النفس البشرية فأخرجوا زكاة أموالهم على أكمل وجه وأوقفوا الكثير من ثرواتهم على مصارف الخير التي أظهرت بحق إيمانهم بأن ما عند الله خير وأبقى وأن المجتمع كالجسد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وإن كانت بعض شركاتنا قد ساهمت في أعمال الخير من بناء مستوصفات ودور للأيتام ودور رعاية لمن أقعدتهم إعاقاتهم الجسدية والعقلية عن الكسب والعيش الكريم، فإن المنتظر منهم أضعاف ما قدموه وذلك وفاء وعرفاناً بالجميل لمجتمعاتهم وفوق ذلك ابتغاء ما عند الله.