لنذاكر التاريخ جيدا.. الخليج العربي قبل الخليج الفارسي!
إذا استعرضنا السياسة الإيرانية إزاء منطقة الخليج في هذه الأيام.. نجد أنها تستهدف إثارة القلاقل في منطقة الخليج، فهي الدولة التي تؤمّن السلاح والمال إلى المعارضين في مملكة البحرين، وتدعوهم إلى التمرد على نظام الحكم والمطالبة بتغيير النظام برمته، كما أن الحكومة الإيرانية تطرح في هذه الأيام قضية مسمى ''الخليج الفارسى'' في مقدمة أجندتها السياسية، وتعتبرها قضية قومية تتفانى في الذود عنها بكل قواها، بل استخدمت الحكومة الإيرانية أخيرا أساليب استفزازية متعددة لتوقيع العقوبات على كل من يستخدم مصطلح ''الخليج العربي'' بدلا من ''الخليج الفارسي''، ولقد نالت شركات الطيران الأجنبية والسياح الذين يزورون إيران نصيبا من عقوبات مذلة نتيجة استخدام مصطلح الخليج العربي. نحن في هذا المقال نلتزم بالموضوعية العلمية لهذه القضية بعيدا عن عواطفنا العربية؛ حتى نستطيع أن نقنع بأن الخليج العربي هو خليج عربي من جذوره الأولى قبل أن تقفز عليه الدولة الفارسية القديمة وتخلع عليه اسم الخليج الفارسي.
تؤكد الكثير من المصادر العلمية، أن القبائل التي استوطنت شواطئ الخليج العربي الجنوبية والشرقية كلها كانت قبائل عربية، وترتب على ذلك أن الأسماء التي عرفت بها المدن الواقعة على سواحله مثل المحمرة وتاروت وجزر موسى وقيس والشيخ شعيب وغيرها كانت هي أيضا أسماء عربية، وما زال الكثير منها حتى الآن يحتفظ بالجنس العربي واللسان العربي والانتماء العربي رغم أن الفرس غيروا - عبر التاريخ - الكثير من الأسماء العربية في الضفة الشرقية من الخليج، وآخر ضحايا العدوان الفارسي على الإمارات وليس آخرا هو الانقضاض على المحمرة الذي قام به في عام 1925 شاه إيران الأب واعتقل على أثره الزعيم العربي غزعل علي الذي ما زال مصيره سرا من أسرار الحكومة الشاهنشاهية البائدة، ثم أخيرا احتلال حكومة الملالي جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى، إضافة إلى جزيرة أبي موسى الإماراتية.
ولقد كان للعرب - عبر العصور المختلفة - دورهم الأساسي في تحقيق الازدهار الاقتصادي في الخليج؛ وذلك بسبب تميزهم بالعديد من المهارات في مياه الخليج، وبالذات في الصيد وتجارة اللؤلؤ، كما أن تأثيرهم لم يكن تأثيرا عابرا، بل كان له سمة الاستقرار الثقافي والديمومة والرسوخ.
ومنذ مطلع التاريخ القديم كانت بابل وآشور وأكاد وعيلام، وهم ذوو جذور عربية، من أوائل الإمبراطوريات التي احتكرت التجارة الدولية في رأس الخليج حتى ساحل البحر المتوسط الشرقي، حيث ازدهرت الحياة في هذه المنطقة وعمّ الرخاء.
وحينما أفل نجم هذه الإمبراطوريات العربية ركدت الحياة في أنحاء الخليج بأكمله، ثم جاءت الإمبراطورية الفارسية الغازية لتحتل معظم منطقة الشرق الأوسط، ولقد حاولت الإمبراطورية الرومانية مرارا إبعاد الإمبراطورية الفارسية، إلاّ أن الغلبة في النهاية كانت لصالح الفرس الذين سيطروا على طرق التجارة البرية، في حين سيطرت روما على التجارة البحرية في مصر وسواحل البحر المتوسط وصولا إلى شمال إفريقيا وغرب أوروبا.
ورغم أن بعض المصادر الغربية دأبت على إطلاق اسم الخليج الفارسي على الخليج العربي اعتمادا على الاحتلال الفارسي المتأخر للخليج الذي أعقب فترات الحكم العربي الأول، إلاّ أننا نلاحظ أن المؤرخ الروماني بليني استخدم في القرن الأول للميلاد مصطلح الخليج العربي، وذلك في وصفه لمدينة خاراكس التي يرجح الباحثون أنها مدينة المحمرة، وقال بليني بالنص: خاراكس مدينة تقع في الطرف الأقصى من ''الخليج العربي''، حيث يبدأ الجزء الأشد بروزا من العربية السعيدة وهي مبنية على مرتفع ونهر دجلة إلى يمينها ونهر أولاوس إلى يسارها.
وفي عصر الدولة الإسلامية أصبح الخليج يشكل خط الحدود الشرقية للوطن العربي، كما كان يمثل جزءا رئيسا لحدود الدولة الإسلامية؛ لأنه يربط المنطقة العربية بما وراءها ويصل سكان تلك المناطق بصلات حضارية قديمة؛ ولذلك اكتسب الخليج العربي أهمية بالغة لدى المؤرخين المنصفين والمحايدين.
ومع بزوغ بشائر البترول في أواخر القرن الـ 19 أخذ الاستقطاب الأوروبي (وبالذات البريطاني) يلتف حول خاصرة منطقة الخليج، وعبثا حاولت الدولة العثمانية التي بدأ الضعف والهزال ينخر أوصالها أن تحمى وجودها وتقاوم الزحف البريطاني المتوغل في الخليج، ولكن كان الأوروبيون يراهنون على إيران ويستخدمون كل الوسائل من أجل أن يحتلوا كل أرجاء الخليج وعملوا - من أجل ذلك - بكل الوسائل لتحقيق حلمهم الاستعماري.. حتى الحس القومي لدى الفرس، فقد استخدموه لإشعال العداء القديم بين العرب والفرس. ونتيجة لذلك فلقد نجح البريطانيون في تأجيج الصراع بين العرب والفرس على مسمى الخليج العربي والخليج الفارسي، وحينما كانت جامعة الدول العربية في قوتها حتى قبل أن تستقل دول الخليج وتنضم إلى الجامعة.. تصدت الجامعة للموقف الإيراني وأصدرت قرارا برقم 2073 في عام 1962 أهابت فيه بجميع المنظمات والفعاليات الدولية بضرورة استخدام المسمى التاريخي الصحيح للخليج العربي بدلا من الخليج الفارسي، ولقد أودعت الجامعة العربية في حينه نسخة من هذا القرار لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة.
ونلاحظ أن العرب كانوا يميلون إلى انتهاج سياسة هادئة ومتهادنة مع إيران حول مسمى الخليج، ويفضلون تجنب الخوض كثيرا في هذا الموضوع الذي لا طائل من ورائه إلاّ التوتر وإثارة النعرات.
ونلاحظ أن دول الخليج العربي حينما همت بإنشاء مجلس التعاون الخليجي في عام 1981 توعدهم الشاه بالويل والثبور إنْ هم أطلقوا اسم مجلس تعاون الخليج العربي، وتجنبا من الدخول في معركة سياسية حادة قرر زعماء الخليج إطلاق اسم مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أي أنهم ألصقوا صفة ''العربية'' بالدول وليس بالخليج، فلم يقولوا إنه الخليج العربي ولا الفارسي، وتجنبوا يومذاك أزمة سياسية غير محمودة العواقب.
وهكذا تستمر إيران في تسخين مواقفها من دول الخليج العربية بدءا بفرض مسمى الخليج الفارسي، ثم احتلال جزر الإمارات الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبي موسى)، وانتهاء بإرسال المال والسلاح للمعارضين والممالئين في مملكة البحرين لكي تسود الاضطرابات والفوضى في بلد خصه الله - سبحانه وتعالى - بنعمة الاستقرار والسلام.