مرض البقعة البيضاء للروبيان.. تأثيرات اقتصادية وخطر بيئي
تشهد سواحل المملكة الجنوبية من البحر الأحمر هذه الأيام وللأسف الشديد مرضا وبائيا سريع الانتشار يسمى مرض البقعة البيضاء، أو ما يسمى متلازمة البقعة البيضاء، وهي عدوى فيروسية تصيب جميع أنواع الربيان، سواء من عائلة (البنايدي) penaeid والتي يزيد الأنواع المسجلة منها أكثر من مائة نوع حتى الآن. وهو مرض فتاك جدا وضاري العداوة، ونتج منه خسائر هائلة لصناعة الربيان وصناعة الأعلاف في مناطق متعددة من العالم.
ويعزى هذا المرض الى أصناف من عائلة من الفيروسات ذات الصلة تندرج تحت مسمى مرض البقعة البيضاء أو متلازمة البقعة البيضاء وهي فيروسات عصوية WSSV.
بدأ تسجيل ظهور هذا المرض عام 1992م في تايوان واليابان وكوريا وتلتها تايلاند والصين عام 1993م، وانتقل عام 1995م إلى أستراليا وأندونيسيا، ثم بدأ ظهوره بشكل واسع النطاق في إكوادور في أمريكا اللاتينية (بلد الموز) 1998م، وتسبب في انهيار قوي لهذه الصناعة في أواخر التسعينيات، وكان الاقتصاد الأكوادوري يعتمد بنسبة 38 في المائة من الناتج المحلي الزراعي من الربيان في وقتها بعد صناعة الموز، وهو ما عرف بظاهرة مرض (تاورا) نسبة إلى المنطقة الساحلية التي ظهر فيها مرض البقعة البيضاء وسجل بعدها في معظم دول أمريكا اللاتينية والكاريبي وسجل في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1999م. وعلى الرغم أن صناعة الربيان في تايوان مثلا في ذلك الوقت أقل بكثير مما هي عليه في دول أخرى، إلا أن الخسائر المباشرة لصناعة الربيان بلغت نحو 648.649.000 دولار، ولصناعة الأعلاف ذات الصلة بالربيان بلغت نحو 263 مليون دولار، حيث كان الإنتاج آنذاك نحو 80 ألف طن من الربيان ونحو 200 ألف طن من الأعلاف. وعلى الرغم من أن هذا الفيروس في حالاته الضارية يصيب جميع أنواع الربيان، إلا أنه أشد فتكا بيرقات الربيان والأطوار الصغيرة منه في المفرخات لأسباب، أهمها ضعف الجهاز المناعي الذي لا يزال في تلك المراحل في طور التكوين وكثافة تواجد اليرقات في المفرخات وسرعة انتقاله من مجموعة إلى أخرى، كما أنه يصيب الأطوار الكبيرة من الربيان من جميع الأصناف تقريبا مثل monodon، japonicus Marsupenaeus، Litopenaeus vannamei، indicus Fenneropenaeus وغيرها، وتتجاوز الإصابة بهذا الفيروس مياه البحر لتصيب ربيان المياه العذبة مثل أصناف عائلة الربيان ذي الخياشيم الكبيرة Macrobrachium، وهو ما سجل في الهند ونتج منه خسائر فادحة للمزارعين، بل ويصيب معظم الأجناس المندرجة تحت تصنيف القشريات التي تنحدر منها سلالات، أحدها الربيان مثل السرطانات Portunus (القبقب) وجراد البحر Panulirus (الأستكوزا) وأنواع أخرى من جراد البحر مثل Astacus وCherax. وتعتبر السرطانات الحاضن الرئيس لهذا الفيروس، وبعض أصنافها لا يبدي الفيروس الحالة المرضية الضارية في هذه السرطانات، على الرغم من سعة تواجد هذا الفيروس في خياشيمها وعلى هيكلها الخارجي. وتظهر أعراض هذا المرض WSSV بعلامات تشمل عزوفا مفاجئا للربيان عن التغذية؛ مما يظهر على هيئة انخفاض في استهلاك الغذاء والخمول، وتغيير اللون إلى الاحمرار في كثير من الأحيان، وميل الربيان إلى التواجد ملقى على حواف البرك وقاع البرك والرقاد على أحد الجانبين وقلة الحركة، ومن ثم ظهور بقع بيضاء بقطر من 0،5 مم حتى 2،0 مم، وقطرها على الأسطح الداخلية للدرقة المغطية للرأس والخياشيم والجهاز الوعائي وذبول في قرني الاستشعار، وفيما بعد تظهر هذه البقع في كل أنحاء الجسم على الهيكل الدعامي الخارجي للربيان. هذا من الناحية الخارجية وله علامات بارزة تشريحية وهستوبثولوجية معلومة للمختصين. كما يدل على تواجد الإصابة كثرة الطيور البحرية التي تهاجم الربيان الضعيف الذي لم يعد قادرا على المناورة.
WSSV فيروس عصوي على هيئة قضيب مكون من حمض نووي مزدوج حر متباين في طول الجسيمات المكونة له فتوجد بأطوال متعددة 70-380 نانوميتر.
يحتوي الغلاف الخارجي للفيروس على غشاء دهني مكون من طبقتين، وأحيانا مع ما يشبه الذيل في نهايته من الفيريون. أما ما يسمى منه nucleocapsid فيتكون من 15 تشكيل لولبي عمودي يقع على طول المحور للفيروس بقطر 8 نانومتر. البقع البيضاء التي تظهر على درقات وأنف الروبيان المصاب تبدو تحت المجهر الإلكتروني على شكل بقع على شكل قبة محدبة من 0،3 مم حتى 3 مم في القطر. التركيب الكيميائي للبقع مكون من الكالسيوم بنسبة 80-90 في المائة ومكون من مجموع المواد ناتجة من تشوهات في القشرة الخارجية للربيان، خاصة مادة الكيراتين.
انتقال الفيروس من مزرعة الى أخرى يتم جراء ممارسات خاطئة غالبا مثل التصريف لمياه البرك المصابة إلى عرض البحر، حيث يكون الفيروس في هذه الحالة ضاريا (معديا) وقابل لإصابة الربيان الطبيعي في البحر وإصابة الربيان في مزارع جديدة عند دخول المياه الملوثة بالفيروس الضاري إلى نظامها المائي هذا على مستوى انتقاله من منطقة إلى أخرى، أما داخل المزرعة نفسها فينتقل بطرق عدة، أهمها المياه الملوثة بالفيروس ووصول بعض العوائل الحاملة للفيروس من القشريات السابق ذكرها (السرطانات واللوبستر) إلى مياه برك التربية أو المفرخات، وكذلك عن طريق الشباك والأواني الملوثة، وحتى العمال أنفسهم ينقلون الفيروس من بركة إلى أخرى في أحذيتهم وبملامستهم بركا ملوثة وابتلال ملابسهم وتنقلهم من بركة مصابة إلى أخرى سليمة أو الدخول بأدوات وأوعية ملوثة للمفرخات السليمة، كما يتم نقله بوسائل النقل كالسيارات والدرجات النارية التي تعبر لمشاريع ملوثة بالفيروس وتنتقل لمشاريع سليمة. أما آلية إصابة وانتقال الفيروس إلى الربيان فتتم بشكل رئيس عن طريق ابتلاع الربيان له عن طريق الجهاز الهضمي بدءا بالفم من المياه المحملة بالفيروس أو يكون الفيروس بحالته الضارية ملتصقا على حبيبات الغذاء فينتقل للجهاز الهضمي أثناء تغذية الربيان، وكذلك ينتقل جراء افتراس الربيان السليم لآخر مصاب، وينتقل عبر الجهاز الهضمي ومنه إلى الدورة الدموية ومنها إلى معظم أنسجة الجسم.
WSSV يصيب طائفة واسعة من خلايا الجسم والنسيج الداخلي من الأدمة، ويحدث تغيرات نسيجية، يصيب الغدد وقرون الاستشعار antennal والأنسجة الوعائية haematopoeitic، والنسيج العصبي، والنسيج الضام، والأنسجة الطلائية. الخلايا المصابة تبدو متضخمة الأنوية.
للأسف الشديد لا يوجد علاج أو مصل لهذا الفيروس، على الرغم من أن الأبحاث والمحاولات تجري على نطاق واسع في دول عديدة في العالم؛ للحد من هذه العدوى، ويجمع المختصون على أن الوسيلة المتاحة هي اتباع نظام درء المرض في هذه المزارع، أو ما يعرف disease prevention system، ويلجأ المزارعون عادة بعد إصابة مزارعهم إلى أسلوب التجفيف للبرك المصابة وتقليب التربة وتعريضها لأشعة الشمس واستخدام عدد كبير من المطهرات في مزارع الروبيان والمفرخات لمنع تفشي المرض. ونقل الأمهات واليرقات السليمة بعيدا عن مناطق الإصابة والضغوطات البيئية بعد فحصها بفحص DNA بجهاز PCR، مع الحذر الشديد لدرء أي مصدر للتلوث واتخاذ تدابير إدارية ومحجرية صارمة. المزارع المصابة تتطلب إجراءات عدة لإعادة تهيئتها للعمل، تبدأ من التخلص التام من جميع الربيان المصاب والمشكوك في إصابته بالحصاد ونقله بعيدا عن المزرعة والتخلص منه بطرق صحيحة، أهما المدافن الآمنة، التي تعد لهذا الغرض وضخ المياه الملوثة لبرك تبخير وتجفيف أو برك تعقيم وتطهير للمياه التي يتعذر تجفيفها وعدم ضخها لعرض البحر والتسبب في استيطان هذا الفيروس الضاري بالبحر وتعريض المصادر الطبيعية للربيان للإصابة أيضا والتي تحتاج إلى سنين للتخلص من هذا الفيروس، وكذلك تعريض التربة لأشعة الشمس وتقليبها والقيام بعمليات تطهير واسعة تشمل الأدوات والأواعي والشباك والقوارب كافة التي تستخدم في تقديم الأعلاف والحد من الحركة غير الضرورية للأشخاص والعربات للمفرخات وبرك التربية والتخلص ومنع السرطانات بوسائل معلومة لدى المزارعين، والتركيز على نشر ثقافة درء الأمراض بين العاملين وزوار المزرعة بعدم التسبب في إيجاد مناطق موبوءة والتخلص السليم من أي مخلفات وسن نظام محجري متعدد درجات الخطورة وحظر من لا تستدعي الحاجة إليهم من الدخول للمناطق المحظورة وعدم تداول ربيان من الخارج أو جلب أسماك أو طعوم للصيد من خارج المزرعة.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) – القمر: 49 - وقال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) - سورة الفرقان: 2 – يقرر الحق تبارك وتعالى أن هذا الكون خلق بقدر وبتوازن؛ فالأصل في خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية التوازن الإلهي العظيم الذي يكفل لهذه البيئة الثبات المتزن بكل مقوماتها الأربعة الماء والهواء والكائنات الحية وما يحدث بينهما من تفاعلات طبيعية ينتج منها عمارة الكون واستمرار الحياة، وعندما يختل هذا التوازن البيئي لأي سبب من الأسباب فإن خللا ما ينتج في نطاق بيئي محدود؛ جراء عدم التوازن ليعيد هذا الخلل للتوازن مرة أخرى وتستعيد البيئة صيانة نفسها والعودة بها إلى حالتها المتزنة، وما يحدث من انتشار الأوبئة ومنها هذا الفيروس وفيروسات أخرى هو ما يحدث لكل من البيئة المحيطة والكائن المستزرع من ضغوط تتجاوز القدرات الاحتمالية لكليهما على تحمل الخلل الناشئ من إدارة هذه المشاريع والمزارع والذي مرده في الغالب إجهاد البيئة بزيادة تربية الربيان أو الأسماك في وحدة المساحة بطاقات لا تحتملها كل من البيئة وهذه الكائنات فتنشط هذه الظواهر المرضية، وبمعنى آخر فإن إجهاد البيئة المائية برمي مخلفات عضوية بتركيز عالٍ ينتج منه على مدى الأيام تدنٍ في جودة المياه الطبيعية وزيادة احتمالية استعادة هذه المياه مرة أخرى بضخها دون إدراك لبرك التربية ويتزامن ذلك مع إجهاد للبيئة المائية الداخلية بالمزرعة في أحواض التربية أو المفرخات بوضع كثافات عالية من الربيان تزيد على القدرات الاحتمالية لهذه البيئة على التوازن وتبتعد بعيدا عن درجة التوازن الطبيعي في الوضع الأصلي ويتزامن معها بالضرورة تدني أجهزة المناعة في الربيان التي تعتبر خط الدفاع الأول للربيان في درء الأمراض البكتيرية والفيروسية وغيرها من الأمراض، ولا سيما اليرقات الصغيرة حديثة الفقس؛ ما يجعلها فريسة لهذه الفيروسات شديدة الضراوة بفعل البيئة المجهدة أصلا، التي أصبحت مناسبة لتفشي هذه الفيروسات وانتقالها من وضع كُمون إلى وضع ضارٍ أو أكثر ضراوة، وتلتقي بهذه الكائنات المزدحمة في هذه البيئات الداخلية المحصورة والتي تعاني اختلالا في توازنها الكيميائي مقارنة مع الأوضاع الطبيعية؛ ما يجعل الإصابة أكثر شدة واستفحالا وسرعة انتشار، وقد ثبت أن مما يساعد أيضا على انتشار الفيروسات تدني درجة حرارة المياه وما لها من تأثير كبير على سرعة انتشار المرض فدرجات حرارة المياه التي في المتوسط أقل من 30 درجة مئوية تكون مواتية لتفشي WSSV. ولذلك يمكن القول إن هذا الفيروس ينشط في فصل الشتاء بشكل أوضح.
كما أن من الأسباب المهمة لدرء هذا الوباء وغيره سن التشريعات التي تلزم أصحاب المزارع والمشاريع بعدم تجاوز المقدرة الاحتمالية للبيئة والكائنات الحية بالحد من الكثافات المستزرعة للأحياء المائية ومراقبتها وضبط أي مخالفات في ذلك، وكذلك وضع أنظمة للتخلص السليم للكائنات المصابة سواء جراء أمراض فيروسية أو بكتيرية أو طفيلية أو غيرها وهي ما يعرف بـ Standard Operating Processor SOP، وهو بروتوكول يتبع في مثل حالات الإصابة ويسنّ من قبل الجهة المشرفة على المشروع يضمن - بإذن الله - التخلص السليم من هذا الوباء ومحاصرته في موقعة وعدم تعدي ضرره لبيئات ومشاريع أخرى ويبعد العشوائية والاجتهادات التي هي غالبا ما يحدث في مثل هذه الحالات.
وفي الختام، يمكن القول إن زراعة الربيان هي في الأخير زراعة ومحصول الربيان محصول زراعي لا يبتعد كثيرا عن الأنشطة الزراعية المعرضة للآفات والصقيع والبرد الذي يصيب الحبوب أو العفن والصدأ الذي يصيب الفواكه والخضراوات أو ما يحدث للدواجن والأبقار من أوبئة مثل أنفلونزا الدواجن أو جنون البقر أو الحمى القلاعية أو غيرها من الأوبئة المرضية التي تصيب حيوانات المزرعة وكما تستعيد هذه الصناعات عافيتها بعد حين بتوفيق الله.. ثم باتخاذ أسباب الوقاية تستطيع هذه المشاريع التغلب على هذه الصعوبات وبدء مواسم أكثر آمانا وحرصا.