الكراهية يمكن أن تكون معدية
عندما يقرر أي مجتمع أن يخوض تجربة النهوض بنفسه بما تحويه هذه التجربة من تطوير للقدرات واستثمار حكيم للموارد وإدارة رشيدة للواقع ومواجهة عنيدة مع التحديات والمشكلات, التي تعترض مسيرة هذا النهوض, وانفتاح على المستقبل من خلال تحديد أهداف واضحة وطموحات محددة ومشروعة, وتعامل حذر مع الماضي لاستيعاب ما يطرحه هذا الماضي من دروس وعبر وخبرات, لكن من غير الانغماس فيه أو التماهي معه, فإن هذا المجتمع يحتاج أكثر من أي وقت آخر إلى حالة من الاستقرار النفسي الذي يقام عليه بنيان قوي ومتين ومتماسك من العلاقات الداخلية بين مكونات ذلك المجتمع وفئاته المتنوعة. الاستقرار حالة ينشدها أي مجتمع يريد فعلا أن يمسك بأسباب التطور والرقي, لكن هذا الاستقرار, الذي هو من أكبر النعم التي يتطلع إليها المجتمع, لا يتحقق على أرض الواقع بوجود نفوس ممتلئة بالكراهية ولا تريد الخير لبعضها. إنها معادلة اجتماعية بسيطة جدا وواضحة, أن النفوس التي تعيش الكراهية, تتكلم بها وتخاطب الآخرين على أساسها وتنظر في إطارها وتشكل الواقع بما يتوافق معها وتفسر الأشياء بما ينسجم وأجواءها, هذه النفوس التي تشبعت بالكراهية لا تنتج, بل إنها غير قادرة على أن تنتج لنفسها ولمجتمعاتها ما هو مطلوب من الأمن والاستقرار. ثقافة الكراهية عندما تتسرب إلى داخل النفس وتتمكن من صاحبها فإن الأخلاق بكل معانيها وقيمها تهرب منه, فسلامة النفس من الكراهية هو الأساس وما الأخلاق إلا بناء فوقي لا يقوم ولا يستقيم إلا على نفوس لا تعيش الكراهية في داخلها.
الكراهية من الأمراض الاجتماعية القاتلة لأنها تمس ركائز الاستقرار لأي مجتمع, ومع خطر الكراهية وشدة ضررها على المجتمع تبقى الكراهية مرضا كأي مرض يمكن تجنبه, وحالة غير صحية يمكن التخلص منها, فالكراهية مرض نفسي اجتماعي موجود ويحيط بأي مجتمع, لكن لا يصاب به المجتمع إلا عندما تضعف مناعته أو أنه يتساهل في أخذ الحيطة منه. تقوية مناعة المجتمع لنفسه وأخذ وسائل الحيطة والحذر لمنع انتقال هذا المرض, الكراهية, من خارج المجتمع أو من مكونات من داخل جسد المجتمع نفسه, كفيلة بأن تجعل المجتمع في مأمن من شرور الوقوع في هذا المرض. المجتمع مطالب بأن يكون على حذر لئلا تتسرب إليه ثقافة الكراهية, وبذلك يمرض هذا المجتمع ويخسر نفسه, وفي هذا المجال هناك الكثير من المحذورات التي يجب الالتفات إليها, التي قد تكون معابر للإصابة بمرض الكراهية, خصوصا عندما تجد لها هذه الكراهية منافذ وأرضا رخوة في ثقافة هذا المجتمع, ومن جملة هذه الأمور نستعرض منها بإيجاز في النقاط التالية:
1- التطرف الفكري: إن التطرف حالة قد يصل إليها الإنسان أو المجتمع عندما يحبس نفسه في إطار مجموعة من الأفكار والرؤى والقناعات التي قد يعتقد أنها الحق المطلق, وبالتالي فهو لا يفترض الصواب عند غيره. فالإنسان المتطرف في أفكاره يدفعه هذا التطرف إلى المزيد من الانزواء على نفسه والتقهقر إلى ذاته, وهذا الانغلاق على النفس والارتماء في حضن الذات يقلل من قدرة هذا الإنسان أو المجتمع من التواصل مع الآخرين. وكلما اتسعت مساحة القطيعة مع الآخر تكفلت المخيلة الفردية أو الجمعية بإنتاج المبررات واختلاق الأعذار لكراهية هذا الآخر. العالم المتحضر عندما يرفض التطرف فإنه يرفضه لأنه ينتج ثقافة مضادة للآخر, وثقافة كهذه لا تريد لمجتمعها أو صاحبها الانفتاح على الآخرين, فهي ثقافة تشوه النفوس بالكراهية. ولقد قدمت التجارب الإنسانية عند مختلف الأمم والشعوب ما يكفي من الأدلة والبراهين عن قدرة الكراهية في تحويل المجتمع من مجتمع مسالم ومتسامح ومنفتح إلى مجتمع مضطرب وغير مستقر وغير متسامح ومنغلق على نفسه, وكل هذه الصفات تعوق إمكانية نهوض المجتمع بنفسه.
2- القطيعة مع الواقع: في الواقع توجد المصالح, وفي الواقع تكتشف المساحات المشتركة والمناطق المفتوحة للالتقاء بالآخر والعمل مع هذا الآخر, وفي الواقع يتم التعرف على صدقية وأحقية ما يحمله كل طرف من هموم وأولويات, وفي الواقع تتأكد الحاجة إلى التصدي إلى ما يواجهه الجميع كمجتمع من مشكلات وتحديات. فعندما يكون هناك انفصام عن الواقع تزداد فرص حدوث الخلافات, وهي خلافات لا تحتكم ولا تقبل بالاحتكام للواقع, ما يجعل الجميع يتمسك بمواقفه, وهنا يبدأ تحول هذه الخلافات إلى نزاعات تتولد منها الكراهية. فكلما استطاع المجتمع أن يؤسس حضورا للواقع في ثقافته الجمعية تروضت النفوس وقبلت بالمشاركة والحوار وأقبلت على العمل من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة تقلل من فرص حدوث النزاعات. فمشكلة الكثير من المجتمعات التي انزلقت في ثقافة الكراهية أنها كانت مجتمعات مثالية في تفكيرها, مجتمعات تتعارك على الجنة ودنياها خربة ومهدمة, مجتمعات يتفننون في الدفاع عن مقولاتهم وأفكارهم ولا يهمهم بعد ذلك أن تفعل هذه المقولات أو أن تترجم هذه الأفكار, مجتمعات عقولهم تزدحم بالأفكار, وأما الواقع فهو يراوح مكانه لقلة ما يتحول من هذه الأفكار إلى أفعال وممارسات. ولعل أكثر ما تتسبب به القطيعة مع الواقع من مشكلات هو غياب الأولويات, والمجتمع الذي ليس عنده بوصلة أولويات مجتمع تتحكم فيه العواطف والأهواء وعندها يصير الخلاف حتى في الأمور الثانوية مبررا لكراهية الآخرين وإعلان الحرب عليهم.
3- التخندق الطائفي: إن الكراهية مظهر لضيق النفس وعدم قدرتها على استيعاب الآخرين, وبما أن الطائفية تشدد الخناق على عقل الإنسان وفكره ونفسه وروحه فإنه بالنتيجة تجعل من الإنسان الطائفي إنسانا غير قابل للآخر وغير مستعد للتواصل أو التعايش معه. فكلما كان هناك تخندق مذهبي أو طائفي كانت هناك فرصة أكبر لاتساع الكراهية في المجتمع, والمشكلة مع التخندق المذهبي أن الكراهية المذهبية الناتجة من هذا التخندق كراهية سريعة الاشتعال, وبالتالي فهي أكثر أنواع الكراهية التي يخاف منها على المجتمع. وأي مجتمع يعيش الكراهية الطائفية في حاجة إلى انقلاب نفسي داخلي يعيد تشكيل رؤية هذا المجتمع لنفسه وللآخرين, فالتفكير في إطار الأمة وليس انطلاقا من حدود المذهب هو الكفيل بمحاصرة هذه الكراهية, لكن السماح بوجود النفس الطائفي في الخطاب الثقافي والإعلامي يخلق مناخا قابلا لتنقل الكراهية من مكون اجتماعي إلى مكون آخر, ومن جيل إلى آخر.
4- تسطيح الوعي: ليس هناك أكثر أهمية من درجة الوعي في حفظ المجتمع من أن يصاب بعدوى الكراهية, فالمجتمعات ذات الوعي المسطح وغير العميق لا تملك القوة وليس عندها من المناعة في منع تسرب الكراهية إلى مكوناتها الاجتماعية, فمثل هذه المجتمعات غير الواعية تنتج الكراهية حتى وهي تعيش جوانبها الإيجابية لأن هناك من ينحرف بهذه الجوانب عن مسارها الصحيح, ولا توجد هناك نفوس واعية تلتفت إلى وجود هذا الانحراف. ومع الأسف هناك الكثير من القوى والفعاليات الاجتماعية التي تتربح من قلة الوعي عند المجتمع, وبالتالي فهي تجتهد في تسطيح مجتمعاتها في وعيها وفي تفكيرها, فهذه القوى تعلم أنها لا تستطيع الاستحواذ على المجتمع والسيطرة عليه إلا عندما يستقيل وعيه ويتعطل تفكيره, ومن هنا تبدأ عملية تهديم الوعي وعندها تكون هذه المجتمعات في أضعف حالاتها أمام عدوى الكراهية التي تفتك بها قبل غيرها.
أخيرا, ما يجب التأكيد عليه هو أن الكراهية مرض اجتماعي نفسي قد يصاب به المجتمع بالعدوى, وهذا يعتمد على طبيعة المجتمع نفسه وما عنده من مناعة في صد هذا المرض المعدي, ومصدر هذا المرض قد يكون من الخارج أو من داخل المجتمع نفسه, والحالة الثانية هي الأخطر, لأن المجتمع نفسه يصبح مصدر مرضه, ففيروس الكراهية المنتج من جسد المجتمع نفسه هو الأقدر على الانتشار بسرعة لما له من قدرة على التمويه للجهاز المناعي الثقافي لذلك المجتمع. والكراهية إذا كانت تنتقل بالعدوى فإن المحبة والإنسانية هي الأخرى تنتقل بالعدوى, وبالتالي فمن الضروري الاهتمام بالبعد الإنساني في ثقافة المجتمع, لأن هذا البعد وهذا المكون الإنساني في الثقافة يجعل المجتمع أكثر تقبلا لثقافة المحبة وأكثر صدا وممانعة في وجه الكراهية.