سورية في مفترق الطرق
مع انتشار موجات الاحتجاج التي تجتاح العالم العربي، والتي أسفرت عن تغيرات جذرية في مصر وتونس وأدت إلى صراعات محلية دامية في اليمن وليبيا وإلى مواجهات عنيفة في البحرين، نقف أمام ما يجري في سورية لنرى الكثير من الاختلاف. حقاً هناك تشابه في البدايات واندفاع بعض المحطات التلفزيونية فيما يبدو أنه عمل مدبر وله مسؤول لصب الزيت على النار، ولكن التفاصيل الحيوية الأخرى تروي حكايات مختلفة.
والنظام الحاكم في سورية منذ الرئيس الراحل حافظ الأسد وقع في مصادمات دموية مع الإسلاميين، ونذكر ثورة حماة التي تم إحباطها بضراوة شديدة، ولكن تلك كانت آخر الارتطامات، وبعدها كان يروق للمسؤولين السوريين التفاخر بأن حزبهم الحاكم - حزب البعث العربي الاشتراكي - يتمتع باستقرار لا مثيل له، خاصة مع إحكام القيادة السيطرة على البلاد بقبضة حديدية.
ومع وجود أوجه تشابه بين سورية ومصر وتونس تتمثل في أن الشباب يشعر بالحرمان من التمتع بحرياته ويعاني المعضلات الاقتصادية التي تفت في عـضد الدول الفقيرة والنامية، إلا أن الرئيس السوري بشار الأسد يأمل أن موجة الاحتجاج لن تتوقف عند سورية، وقد صرح فعلا في أعقاب أحداث مصر وتونس بأن سورية ليست مصر أو تونس، لأن الشعب السوري يرى في قيادته صرحاً وطنياً يعادي الولايات المتحدة ويناوئ إسرائيل ويحمي المنظمات التي تقاومها.
غير أن يوم الـ 18 من آذار (مارس) حمل الرياح المعاكسة إلى الشرق، ما دفع الرئيس السوري إلى القول بأن هناك أيادي خفية، ودلل على ذلك بما تفعله المحطات المبالغة في حماسها ضد الأنظمة الراهنة، كما لو كانت تحقق مطلبا أمريكياً شهيراً هو الفوضى الخلاقة، والتي تعتبر الخطوة الأولى لتشييد شرق أوسط جديد من فتات الدول العربية، لتصبح إسرائيل الآمر الناهي والحاكم المطلق عسكرياً واقتصادياً وسياسياً في المنطقة، المهم أن قناة الرأي والرأي الآخر! واصلت هوايتها بتقديم الرأي فقط، ربما لأنها قبلت الظهور في ثياب منقذ الأوطان، وعليه أصبحت هواية هذه القناة وشريكتها عرض مظاهرات الجمعة.
أما عن حكاية مظاهرات الجمعة فإن الطريف في الحالة السورية أن أيام الأسبوع العادية تشهد مظاهرات مؤيدة للحكومة والحزب والرئيس، أما يوم الجمعة فهو يوم الاحتجاج والمعارضة بعد صلاة الجمعة، ربما لأن المعارضين ينتمون إلى الحركات الإسلامية، وربما لأن الأمن السوري في مواقع العمل قوي وقمعي.
أدت مظاهرات الجمعة إلى صدام حتمي بين أنصار الحكومة والمعارضة، وفي بعض المناطق مثل درعا كانت الارتطامات بين السنة والعلويين الذين يمثلون 12 في المائة من سكان سورية تماماً مثل الأكراد السنة، أسفرت هذه الاشتباكات عن بعض القتلى في درعا واللاذقية.
وقد حدث في سورية عكس ما حدث في مصر وفي تونس، فقد نجح المسؤولون في الحكومة والحزب في تجنيد الآلاف من المؤيدين الذين أظهروا تأييدهم وولاءهم للرئيس الأسد، وهناك ورقة أخرى قوية في جيب النظام السوري، وهي أنه ما زال ينعم بتأييد الجيش وقوات الأمن ولذلك فقد قاموا بفض المظاهرات بقوة وضراوة على عكس ما حدث في مصر وتونس عندما انضم الجيش إلى الشعب، ويطمح المتظاهرون السوريون في إقناع الجيش بالوقوف معهم، ولكن ذلك أمر من الصعوبة بمكان، لأن معظم القيادات من العلويين الذين يدركون أن سقوط النظام سيعني القضاء عليهم كما حدث في الثورة الإيرانية.
وهناك خطان إعلاميان متنافران متناقضان: الأول خط تتبناه القنوات العاشقة للحريات مثل الجزيرة والعربية والحرة الأمريكية، والثاني يدفع به الرئيس بشار الأسد. وقد تجسد هذا التناقض في الاجتماع التاريخي أمام البرلمان السوري، حيث ألقى الرئيس بشار خطاباً تاريخياً حمّل فيه الولايات المتحدة وإسرائيل مسؤولية القيام بالتحريض والتهييج والإثارة، كما وجه أصابع الاتهام إلى بعض الدول العربية وقال إن هذه العناصر مجتمعة اتفقت على إسقاط النظام.
وقد لاحظ المراقبون أن الرئيس بشار الأسد لم يقدم أي تنازلات، مؤكداً أن الموقف لا يتجاوز أن يكون معركة إعلامية عنيفة مع خصوم سورية، كذلك لم يقدم الرئيس أية وعود بالتغيير أو الإصلاح. في اليوم التالي للاجتماع أعلنت دمشق عن تشكيل عدد من اللجان لبحث بعض التعديلات في قوانين الطوارئ، وسرعان ما هبت القنوات التلفزيونية لتقول إن تعديل قوانين الطوارئ لن يقدم الحرية للشعب السوري. وقد استجاب كثير من السوريين للفكرة الإعلامية الواردة من القنوات عندما نظموا بعد صلاة الجمعة 1 أبريل مظاهرة كبيرة تطالب بالحرية، وقد واجهها رجال الأمن بالعنف.
وهكذا تمضي الأمور في سورية، مظاهرات تأييد أثناء أيام العمل طوال الأسبوع، واحتجاجات بعد صلاة الجمعة وخاصة بالقرب من المساجد.
ويرى المراقبون المحايدون أن النظام السوري يقف صلداً قوياً لأنه يمتلك ناصية القوة ممثلة في الجيش وقوى الأمن، ولأن الجغرافيا السكانية في صالحه، ذلك أن ثلاثة أرباع سكان سورية في المدن، حيث يعيش في دمشق 5.5 مليون نسمة، وفي حلب 5 ملايين نسمة، وفي حمص وحماه واللاذقية أعداد كبيرة، ما يسهل على الأمن تطويق المظاهرات وإخمادها.
والوصف الموضوعي لما يجري هو أن هناك حالات من الغليان لدى قطاعات من الشعب تبرز كل جمعة وتبقى ساخنة تحت الأرض، أما الغالبية العظمى من سكان دمشق وحلب فلم تنضم إلى المظاهرات، وتحاول المحطات والقنوات ''المتطوعة'' تسخينهم لتصعيب المهمة على القيادة.
والخط الإعلامي من الرئيس الآن لدى هذه القنوات هو اللعب بورقة السنة ضد العلويين، وإيقاظ الأقليات السورية ضد العلويين، وأبرز الأقليات هم الدروز (5 في المائة) والمسيحيون (13 في المائة) والأكراد (10 في المائة)، أي أن 40 في المائة من سكان سورية من الأقليات، علماً بأن المسيحيين يرفضون الانضمام للسنة خاصة وهم يديرون مظاهراتهم من المساجد.
في خضم هذه التناقضات فإن السؤال الأهم هو: ماذا سيحدث في سورية؟
على المستوى القريب لن تحدث أية تطورات درامية بصرف النظر عن شلالات الإعلام المضاد للأسد، كما أن موجة الاحتجاجات السورية أضعف بكثير منها في مصر وتونس، حيث تقل مواقع التناقضات كثيراً.
ويتوقع الخبراء أن تستمر العواصف سرية وداخلية في محاولات تمزيق أسس النظام، وفي المقابل فإن الأحداث المتتالية في مصر وسورية واليمن والبحرين وضعت دمشق في موقع الحذر، وتعد العدة لمواجهة الأسوأ، وهذا في حد ذاته يعتبر حجر عثرة في وجه الرافضين والمحتجين.
وفي ضوء هذا فإننا نرى أن الجولة السورية ستكون أكثر دموية ولن يجري حسم أي شيء فيها قبل سنوات، على عكس توقعات مؤججي الثورات، ويقرأ البعض أموراً مختلفة في سورية، ذلك أن النظام الحاكم متمرس في الشدائد والمواجهات والدسائس غرباً وجنوباً وشرقاً وشمالاً مع العراق وتركيا ولبنان وإسرائيل، وقد استمد من ذلك قوة تجعله أكثر صلادة، وإن أرادت إيران دعم حليفتها سورية فسوف يزيح ذلك الكثير من الهموم الاقتصادية التي تعد الفتيل الأسرع اشتعالاً في الدول النامية. وعلى كل حال فنحن أمام قصة متصلة ستطول حلقاتها وفصولها كما سترينا الأيام القادمة.