الجيل الأمي القادم
تعاني مخرجات التعليم في بلادنا تدهوراً مستمراً رغم كل ما تنفقه الدولة على قطاع التعليم من موارد، إلى حد أن جزءا كبيرا من خريجي التعليم العام يصلون إلى الجامعات وهم يفتقرون إلى معارف ومهارات يفترض أنهم اكتسبوها في دراستهم الابتدائية، وهو مؤشر على حجم الهدر في الموارد، وتدني الفاعلية التي يتصف بها نظامنا التعليمي. إلا أن المقلق أن هذا الواقع ورغم سوئه ينتظرنا خلال السنوات القليلة القادمة ما هو أسوأ منه بوصول الطلاب والطالبات، الذين خضعوا لأسلوب التقويم المستمر بدلاً من الاختبارات في المرحلة الابتدائية، إلى المستوى الجامعي، فتحصيلهم سيكون حتى أشد تدنياً مقارنة بمدخلات التعليم الجامعي حالياً الذين من بينهم من كانت أسرهم تتابع سيرهم الدراسي، وتساعدهم على مراجعة دروسهم في مواسم الامتحانات، أما الآن وفي ظل أسلوب التقويم المستمر، فمعظم الأسر تكتفي بالاطلاع على نتائج التقويم المستمر التي تظهر إتقان أولادهم المهارات المطلوبة رغم قناعتهم الأكيدة بعدم دقة هذه التقارير ومبالغتها الشديدة في تحديد مستويات أبنائهم وبناتهم، يدل عليه أن هناك من يتجاوز الابتدائية دون أن يجيد كتابة اسمه أو يستوعب مبادئ الجمع والطرح.
هذا الواقع المرير لتعليمنا العام يظهر أن من بين أهم المشكلات التي يعانيها نظامنا التعليمي الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في تشخيص طبيعة المعضلات التي يعانيها ما أوصلنا إلى ما اعتقدنا خطأ أنها حلول، بينما هي في الواقع تعقيدات إضافية تسببت في تدهور مستوى التعليم لا في تحسنه. فاتباع أسلوب التقويم المستمر مثلاً كان يتطلب هيئة تدريسية تملك الدافعية المناسبة وهيكلا إداريا وتعليميا يمتلك برامج رقابة عالية الكفاءة تضمن فاعلية التنفيذ، كما يتطلب عددا محدودا من الطلاب في الفصل الدراسي ما يضمن حدا أدنى من العناية الفردية لكل طالب وطالبة في الفصل، وكلها متطلبات غير متوافرة، ومن المذهل ألا يدرك من وضع وأقر تطبيق هذا الأسلوب هذه الحقيقية الواضحة للعيان، فتكون النتيجة أن يزداد التعليم تدهوراً في الوقت الذي نظن فيه أننا نقوم بجهود لتطويره.
من ثم فقد ترتب على سوء تشخيص مشكلات نظامنا التعليمي عدم مناسبة الحلول التي وضعت للتعامل مع تلك المشكلات ما زادها تفاقماً بدلاً من أن تحل، وبشكل عام فإنني أرى أن أهم المشكلات التي يعانيها نظامنا التعليمي، وفي حاجة إلى تركيز واهتمام شديدين تتمثل في التالية:
1- أن قصر مهمة تخطيط وتطوير التعليم على التربويين أسهم بشكل واضح في تردي مستوى تشخيص المشكلة التي يواجهها نظامنا التعليمي, وبالتالي مناسبة الحلول المقترحة للتعامل معها. فما قد يخفى على الكثيرين هو أن معظم برامج الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية والأوروبية في مجال التعليم تكون في الغالب برامج تتصف بالسهولة ومحدودية المتطلبات، ما يمكن الطالب من الحصول على درجة الماجستير والدكتوراه بجهد متواضع نسبيا، ومع ذلك فإن خريجي هذه البرامج بعد عودتهم للمملكة ينظر إليهم على أنهم متخصصون يحملون شهادات عليا في مجال التربية والتعليم، ما يؤهلهم لأن يعهد إليهم ويفوضوا وحدهم بمهمة تشخيص مشكلات التعليم ووضع الخطط لتطويره، رغم أن ما حصلوا عليه من شهادات لا تعني بالضرورة أنهم مؤهلون للقيام بهذه المهمة، أو أنهم أفضل من يمكنه القيام بها. بل إن بعض مسؤولي التعليم لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء الدراسة في الخارج، واكتفوا بالحصول على درجات علمية من جهات غير معترف بها اضطرت معه وزارة التربية والتعليم قبل فترة إلى إصدار قرار يحظر استخدام الألقاب العلمية من قبل مسؤولي الوزارة ما لم تعادل شهاداتهم من قبل لجنة معادلة الشهادات في وزارة التعليم العالي.
2- أنه حتى عندما أقر برنامج لتطوير التعليم، الذي لا بد أن إقراره قد تم نتيجة إدراك عميق من قبل الجهات العليا في الدولة بعمق وفداحة المشكلة التي يعانيها نظامنا التعليمي، نجد أنه بدلاً من أن يكون برنامجاً مستقلاً محققاً لما يسمى المراقبة والتوازنCHECKS AND BALANCES بين الجهات التعليمية وبين من عهد إليهم بمهمة تطوير التعليم، وجدنا أن منسوبي التعليم الذين لم ينجحوا في حل مشكلات التعليم في مواقعهم الإدارية التعليمية ينتقلون إلى هذا البرنامج ليكونوا هم أنفسهم من يعهد إليهم الآن بمهمة تشخيص المشكلات وإيجاد الحلول، وهو أمر أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه عديم الجدوى، ولا يمكن أن يوصل إلى أي نتيجة ويجعلنا ندور في حلقة مفرغة دون أن نصل إلى حلول حقيقية.
3 ـــ أن المؤسسات التعليمية تعاني تدني مستوى أداء قطاع كبير من العاملين فيها، وغياب أي شعور لديهم بالمسؤولية نحو طلابهم، ما جعلهم غير مكترثين بما يترتب على تقصيرهم من ضرر على مجتمعنا وأجيالنا القادمة، الذي يبدو جليا من انتشار ظاهرة حذف أجزاء كبيرة من المقررات واختزال المعلمين لها في ملازم لا تتعدى بضع صفحات، بل أحيانا في ورقة واحدة فقط، هي كل ما يحتاج إليه الطالب لينجح باقتدار وتميز، أما الكتب الدراسية التي يفترض أنها أعدت بعناية فائقة وكلف إعدادها وطباعتها مبالغ طائلة، فلا يكترث لها المعلم والطالب مطلقا ولا يعيرانها بالا. ويعود ذلك إلى أن المؤسسات التعليمية لا تملك أي قدرة على معاقبة معلم مقصر أو مكافأة مجد، فالكل يحصل على علاوة سنوية مضمونة طوال حياتهم الوظيفية، بسبب خضوع المعلمين لكادر وظيفي يساوي في الحقوق والواجبات بين المسيء والمتميز. ورغم مرور ما يزيد على 30 عاما على تطبيق هذا الكادر المحبط المشجع على التقصير وسوء الأداء، لم يجرؤ مسؤول واحد، حتى الآن، على بذل أي جهد لإصلاحه.
4 ـــ أن تفشي المحسوبية والواسطة في التوظيف وعدم وجود معايير صارمة دقيقة تفاضل بين الخريجين وفق مستوى أدائهم التعليمي يمثل عنصر إحباط هائل للطلاب والطالبات، ويشجعهم على عدم المبالاة بحقيقة مستوى ما يحصلون عليه من تعليم وتأهيل، فمعظمهم على قناعة راسخة بأن فرص العمل المتاحة لهم بعد التخرج مرتبطة بعلاقات ذويهم أكثر من ارتباطها بمستوى تحصيلهم العلمي، فكم طالب حقق أدنى المستويات وحصل على أفضل الوظائف في حين أن مجتهدا قد يعاني الأمرين في الحصول على عمل مناسب يليق بما بذله من جهد، وما لم يتغير هذا الواقع فلن نستطيع أن نحفز الطلاب على بذل جهد أكبر، أو أن نقنعهم بانعكاس ما يحققونه من مستوى أداء في تعليمهم على مستقبلهم الوظيفي.
إن هذه هي المشكلات الحقيقية التي يعانيها نظامنا التعليمي، وأي تشخيص مختلف يمثل ـــ في رأيي ـــ هروبا من مواجهة الحقيقة وتجنبا لدفع استحقاقاته، وإذا لم نتعامل مع هذه المشكلات بشجاعة وحزم فسنظل ندور في حلقة مفرغة يتراجع معها تأهيل مواردنا البشرية، ونفشل في التأهل للمنافسة على المستوى العالمي.