المدرسة بيئة راكدة تعجز عن التجديد والتطوير .. والتعليم المبرمج من الوسائل السلوكية
أكد الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الدخيل مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن عضو مجلس الشورى سابقا، أن المدرسة بيئة راكدة تعجز تكاسلا أو جبنا، عن أن تسعى إلى التجديد أو التطوير أو حتى تتناغم معهما، ما دعا المسؤولين عن التعليم في بعض البلدان الغربية إلى تمكين بعض المدارس كي تكون مستقلة أكاديميا وماليا وإداريا وتحت إشراف مباشر من الآباء ووجهاء المجتمع.
وأوضح الدكتور الدخيل أنه سبق أن قام بزيارة لإحدى المدارس النموذجية في مدينة ملبورن في أستراليا مع وفد تعليمي سعودي، وقد دهش بما شاهده في تلك المدرسة من برامج وتجهيزات تفوق ما كان يراه في الجامعات السعودية.
وقال الدكتور الدخيل في محاضرة له في كلية التربية في جامعة أم القرى تحت عنوان: (استخدامات الأدوات السلوكية في التعليم)، إن التدريب على القيام بسلوك إيجابي أفضل الطرق البديلة للعقاب، كما أنه يجب أن تكون طريقة العقاب إنسانية والابتعاد عن الإهانة أو التقليل من كرامة المعاقب.
#2#
#3#
وتحدث الدكتور الدخيل خلال اللقاء بحضور الدكتور بكري بن معتوق عساس مدير جامعة أم القرى ووكلاء الجامعة وعمداء الكليات، عن شغفه بالسلوكية كفلسفة وطريقة حياة، امتدت من أواخر الستينيات الميلادية من القرن الماضي، وأنه لم يكن مرتاحا فيما تعلمه في علم النفس في مرحلة الدراسات الجامعية، حيث كان تواقا إلى التوصل إلى اتجاه ينقذه من حيرته، ويمكنه من الفهم المجدي والمنتظم لكثير من الظواهر السلوكية.
#4#
#5#
وقال: ''بدأت انطلاقتي نحو السلوكية في أول سنة لي في الدراسات العليا عندما قرأت كتابا لوالتر ميشيل ينقد فيه علميا كثيرا من الممارسات التقليدية ويبين نواقصها''.
وأضاف قائلا: ''عندما قرأت كتاب ''سكينر'' عن متوقفات التعزيز، أيقنت أن سلوكية سكينر هي الأفضل لأسباب عدة، فهي قادرة كذلك على رسم فلسفة للسلوك ليست مستمدة من الثقافة المسيحية وتتوافق مع نتائج كثيرة من البحوث العلمية في السلوك، ثم إنها تعطي الفرد أهميته، إذ إن منهجها العلمي لا يلجأ إلى المعدلات المعالجة إحصائيا لتصوير حقيقة السلوك، بل يأخذ منهجها في الاعتبار الفروقات الفردية ويحاول التعامل معها مباشرة''. ''سلوكية سكينر هي الأفضل كأسلوب ناجح وناجع في الحياة بمختلف أنواعها ومستوياتها''.
وتابع: ''لذلك أصبح التحليل السلوكي لديَّ ممارسة مستمرة، به أفهم وبه أضبط وأنضبط، كثيرا ما أتوقف لأتأمل أي حادثة سلوكية أشاهدها أو أمر بها، حتى تلك الخفية منها في سلوكي، لأحللها وصولا إلى فهم ديناميكيتها، متذكرا أنه حتى هذا التأمل والتحليل الذي أقوم به هو أيضا سلوك قابل للتأمل والتحليل''.
ويواصل حديثه: ''ما زلت أصادف النجاحات المتجددة لهذا الاتجاه بين وقت وآخر، فمثلا عندما جثم التوحد على صدر سبط لي وجدت والدته ـــ بتوفيق من الله ـــ في التحليل السلوكي خير وسيلة للتعامل مع هذه المشكلة، ومن قرأني في موضوع التوحد خصوصا في النشرات الموجهة للآباء لاحظت شبه إجماع على أن تقنيات التحليل السلوكي هي الأفضل في التعامل مع التوحد، ما عزز قناعتي أكثر بأهمية هذا الاتجاه''.
ويروي الدخيل أهم البدايات لإسهام السلوكية في العمل المدرسي، بأنها كانت من خلال جهود ''سكينر'' في الأربعينيات من القرن الماضي، عندما طور ما سمي آنذاك بـ ''مكينة التعليم''، وجاءت فكرة هذه الآلة نتيجة لزيارة ''سكينر'' مدرسة إحدى بنتيه عندما شاهد معلمة الرياضيات وهي تقوم بتدريس ذلك الموضوع، وبالرغم من براعة المعلمة إلا أن طريقة التدريس كانت تفتقد ثلاثة عوامل للنجاح في تطوير مهارة الطلاب في تلك المادة، فأتت فكرة ''سكينر'' لهذه الآلة لتلافي ذلك النقص، إذ قدر أن الآلة ستمكن الطلاب من المشاركة بالفعل والجهد في العملية التعليمية بدلا من السكون والركون إلى التلقي.
وتابع: إن الآلة تتيح للطلاب تلقي تقويم فوريا، إيجابي، أو سلبي لسلوكهم فيما يتعلق بتفاعلهم مع مفردات المادة، كما أن هذه الآلة تتيح التعامل مع الفروقات الفردية بين الطلاب بالتساوي العادل بدلا من الركون إلى معدل مفترض لمستويات الطلاب المختلفة، فكل طالب يمكن أن يسير في فهم المادة حسب مستواه وحسب سرعة فهمه، ثم إن الهدف من تطوير هذه الآلة كان إتاحة الفرصة للمعلم كي يوجه جهوده التعليمية لجوانب إبداعية تتعدى النقل الآلي للمعلومة.
وبين الدخيل أن ''مكينة التعليم'' قوبلت بمقاومة شرسة، إذ قدر كثير من التربويين أن هذه الآلة تحط من الجانب الإنساني في التعليم ولا تعطي الفرصة للطالب كي يكوِّن المهارات المفهومية والإبداعية، ومن ثم لم تجد هذه الفكرة القبول والالتزام، وفي الحقيقة فإن السبب في عدم قبول تلك الآلة آنذاك كان بسبب الجهد المطلوب في ترتيب مفردات المادة، وتشكيل سلوك الطالب الأكاديمي، إذ تطلب ذلك برمجة المادة بحيث يتدرج السير فيها بخطوات تدريجية متقاربة، وهذا العمل لم يكن سهلا؛ لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية العملية، لذلك عندما برزت هذه الفكرة مرة أخرى عن طريق الحاسوب الذي يتيح تطوير هذا الجهد وتعديله إذا لزم الأمر من قبل شركات متخصصة وجدت فكرة التعليم عن طريق الآلة قبولا حسنا.
وأضاف الدخيل أن المشكلة هي أن المدرسة في المعظم للأسف بيئة راكدة تعجز تكاسلا أو جبنا، عن أن تسعى إلى التجديد أو التطوير أو حتى تتناغم معهما، وهذا دعا المسؤولين عن التعليم في بعض البلدان الغربية إلى تمكين بعض المدارس كي تكون مستقلة أكاديميا وماليا وإداريا وتحت إشراف مباشر من الآباء ووجهاء المجتمع، ليس فقط من أجل مراقبة الجودة وتمكينها كي تبدع، ولكن أيضا للحصول على الدعم المالي من المتمكنين عن طريق تبرعات ورسوم دراسية بسيطة، وقد زرت إحدى هذه المدارس النموذجية في مدينة ملبورن في أستراليا مع وفد تعليمي كان يرأسه الدكتور محمد الرشيد عندما كان وزيرا للتربية والتعليم، ودهشنا بما شاهدنا في تلك المدرسة من برامج وتجهيزات تفوق ما كنت أراه في بعض جامعاتنا.
وحول الجدل الذي أثير حول آلة التعليم قال الدخيل: ''دفع سكينر لبذل مزيد من الجهد نحو تطوير التعليم في ضوء المبادئ السلوكية التي كان له الباع الأكبر في تحديد معالمها، وبشكل أهم شرح مقتضياتها، فأصدر كتابا بعنوان ''تقنية التعليم'' يبين فيه الإسهامات التي تنبثق من طبيعة هذه المبادئ، كما كتب عدة مقالات في موضوع التعليم وطور طرقا لتشكيل سلوك الطلاب في بعض المهارات الأساسية مثل كتابة الأحرف أجد الفكرة نفسها الآن متاحة من خلال جهاز الآي باد''.
وعدد الدخيل نقاط تؤخذ في الاعتبار عند التعامل مع أي سلوك، ''فالنقطة الأولى، هي أنه قد يتم الاعتماد على الخبرات الشخصية للمساعدة في التعرف على قيم النتائج، إيجابية أو سلبية، أو مدى قوتها وتأثيرها وربما نوفق في ذلك كثيرا، إلا أن الخبرات قد لا تتوافق أحيانا مع خبرة الآخرين، فما هو إيجابي لنا قد لا يكون كذلك للآخرين، بل ربما يكون العكس، وعلى العموم فإن إيجابية أو سلبية النتيجة هي نسبية، وتعتمد إلى حد كبير على تجارب الشخص السابقة، لذا فإننا يجب ألا نفاجأ لو وجدنا مثلا أن نتيجة سلبية بالنسبة لنا هي إيجابية لشخص آخر''.
أما النقطة الثانية وهي أن عملية التعزيز لا تقتصر على تقديم المعزز بل قد تحدث عن طريق إيقاف حدث سلبي أو مزعج، فتوقف حادثة سلبية يزيد من تكرار السلوك الذي أدى إلى ذلك، والنقطة الثالثة فهي عندما يكون للسلوك أكثر من نتيجة فإن تلك التي تلي السلوك فورا هي التي يكون لها فعالية أكبر وتأثيرا أكثر من تلك التي لا تظهر إلا بعد حين.
وركزت النقطة الرابعة على أن تأثير النتائج في السلوك حاصل حتى ولو لم يكن معطيها أو متلقيها على إدراك لما يحدث، أو أنه يقصد ذلك التأثير، أي أنه يمكن لأي شخص أن يشجع سلوكا ما عند آخر، وهو لا يدرك أو يقصد ذلك، ولهذا فقد يشجع السلوك الخاطئ عفوا، أو قد يثبط السلوك المستحسن عن غير قصد.
وتتضمن النقطة الخامسة التي تؤخذ في الاعتبار عند التعامل مع أي سلوك أنه ليس من الضروري تقديم المعزز بعد حدوث السلوك كل مرة لتقوية حدوثه، لأنه لا يمكن تعزيز السلوك بتقديم النتيجة الإيجابية بعده في بعض الأحيان فقط، وهناك عدة طرق لتقديم المعزز على هذا النحو نسميها جداول (أو برامج) المعزز، إلا أن الذي يجب تأكيده هو أن تقديم المعزز بعد السلوك في بعض الأحيان، بدلا من تقديمه بشكل مستمر مفيد من حيث الاقتصاد في استعمال المعزز، ففي ذلك توفير لجهد المهتم بالتحكم في سلوك ما، كما أنه من المفيد من حيث تأخيره أو منعه للإشباع أو الملل من ذلك المعزز عند متلقيه، كذلك فإنه بدلا من إشغال الشخص بتلقي المعزز واستيعابه كل مرة يحدث فيها سلوكه المعزز، فإن تقديمه بعض المرات فقط يؤدي إلى الزيادة في تكرار السلوك خلال وقت معين، ولكن الفائدة الأكثر تأتي من أن تقديم المعزز بهذا الشكل يزيد من مقاومة السلوك للتوقف حتى بعد مضي مدة طويلة من توقف المعزز، ومن ثم فإن الإهمال في تقديم المعزز لا يؤدي بالضرورة إلى توقف السلوك المعزز.
وأضاف: ''إن التعليم المبرمج من جملة الوسائل السلوكية لتنمية السلوك التعليمي، الذي يمكن تقديمه عن طريق الكتاب المقرر أو الفيديو أو الكمبيوتر، ويمتاز هذا النوع من التعلم بأنه يتيح للمتعلم إكمال المهمة في وقت وجيز، ما يوفر الوقت لاكتساب مهارات تعليمية أخرى''.
كما أنه يمكن الطالب من التقدم في المادة حسب مستواه وسرعة استيعابه لها، وتستلزم برمجة المنهج تحديد الأهداف ومن ثم يعرف الطالب بالتحديد ما هو مطلوب منه، كما أن التعليم المبرمج يلزم الطالب اليقظ الدائم، ويعطيه إشعارات فورية عن استيعابه لمفردات المادة وهو ما يؤدي إلى تعزيز الجهد التعليمي، كما أن من أهم ميزات التعليم المبرمج أنه يخلص المعلم من الأعمال الروتينية فيمكنه من القيام بهدوء أكثر ابتكارية.
وحصر الدكتور الدخيل مشكلة التعليم المبرمج في صعوبة تصميمه، إذ المطلوب سير مستويات الطلاب ومعرفة المادة معرفة وثيقة ثم تقسيمها إلى وحدات تدرجية صغيرة وترتيبها للسير نحو الهدف المرسوم بسلاسة، مبينا أن تضافر جهود جهات عدة من أجل برمجة مواد مشتركة، خصوصا ميدان التدريب، بدا يعطى دفعة قوية لهذا النوع من التعليم.
وأوضح الدخيل أن هناك وسائل للحد من السلوكيات غير المرغوبة كالغش أو السرقة والإزعاج وفي مقدمة هذه الوسائل وأكثرها استخداما هو العقاب لسهولة تطبيقه وفعاليته في الإيقاف الآني للسلوك، ويكون العقاب ضروريا إذا كنا نريد إيقاف حدوث سلوك ما، ولا نستطيع إيقاف ذلك السلوك بالطرق الأخرى، ويكون العقاب ضروريا عندما يكون السلوك غير المرغوب قد عزز لمدة طويلة، أو عندما يكون السلوك خطرا، ومن الضروري إيقافه حالا، ويلعب العقاب دورا مهما في محاولات التحكم في السلوك، ويرجع شيوع استخدامه إلى سهولة تقديمه وفعاليته في الحد من السلوك غير المرغوب، غير أن إساءة استعمال العقاب تؤدي إلى حوادث الإساءة إلى الأطفال.
ويستحسن إيجاد طرق بديلة للعقاب للحصول على نتائج إيجابية كالتدريب على القيام بسلوك آخر، فالعاطل الذي يضطر إلى السرقة سيجد أن اكتساب مهارة يدوية أو فكرية قد يؤدي به إلى الحصول على النتيجة نفسها التي كان يحصل عليها عن طريق السرقة وبجهد جسمي أقل، ويلزم أن تكون طريقة العقاب إنسانية وألا تتضمن الإهانة للمعاقب أو التقليل من كرامته.
وأبان الدكتور الدخيل أن هناك طرقا أخرى لإيقاف السلوكيات غير المرغوبة، ومن بينها التناقص التدريجي إلى أن يتوقف تماما عن ممارسة السلوك غير المرغوب، ولهذه العملية مزاياها ومساؤها، فمن مزاياها أن التأثيرات الانتقالية الجانبية أخفى حدة من تلك التي تصحب العقاب، كما أنها لا تتطلب جهدا كبيرا، ومن مساوئها أنها تأخذ وقتا طويلا لأن فعلها تدريجي، وليس فوريا وقد لا نستطيع تحمل بطء تأثيرها فنرجع إلى تعزيز السلوك.
واختتم محاضرته بأن التحليل السلوكي يغطي بدراساته وتقنياته حقولا كثيرة، ونجح في حل معضلات مستعصية على جهود التخصصات الأخرى، فهو يبحث في الأسس السلوكية للمعرفة والسلوكيات الذهنية.
من جانبه أوضح الدكتور بكري بن معتوق عساس مدير جامعة أم القرى، أنه بالعلم والإيمان ترتقي الأمم وتزدهر الحضارات، وأن الحضارة الإسلامية مثال حي يظل شاهدا على الاهتمام بالعلم والعلماء.
وقال: ''إن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران تعد من الأركان الأساسية للتعليم العالي في التخصصات العلمية الدقيقة، وقد أصبحت مضرب المثل في المحافل الدولية''، معبرا عن شكره وتقديره للدكتور عبد العزيز الدخيل على اختياره كلية التربية في جامعة أم القرى ليهديها مكتبته الخاصة، وهو ما يؤكد محبته لمكة المكرمة.