صعود بن لادن وسقوطه
الذين عرفوا أسامة بن لادن خلال الجهاد الإسلامي ضد السوفييت في أفغانستان عرفوا عنه المصداقية والحماس في دعم المجاهدين وجهادهم، وكيف أنه أعطى للجانب الإنساني من رعاية اجتماعية للأفغان الذين تضرروا من جراء ذلك، دورا واهتماما في دعمه للجهاد، الذي كان آنذاك ـــ أي الجهاد ـــ مدعوما من كل القوى المعادية للسوفييت وللشيوعية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي أمدت المجاهدين وقتها بأسلحة متطورة ساهمت في إرهاق القوات السوفييتية المحتلة وهزيمتها في آخر الأمر، وهو ما أدى بعد ذلك لانهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المعسكر الشرقي، بل كان يدعى إليه ويحث عليه علنا على أنه واجب ديني.
لم يكن أسامة بن لادن حينها وحيدا في الساحة داعما للجهاد، بل كان الأبرز بشبابه وسمعة عائلته ووفرة ماله وتركه لحياة الترف والدعة والانصراف نحو العمل الإسلامي في أفغانستان المحتلة، وكان اسمه يتردد كثيرا وعاملا مهما في دعم الجهاد والمجاهدين، ويتحرك بحرية، بل باحتفاء به في كل مكان يذهب إليه، وتم التعامل معه وقتها على أنه من المجاهدين بمالهم ووقتهم مما جعله يحظى ليس فقط باحترام الجميع بل حتى بإعجابهم بهذا الشاب المسلم الذي انصرف عن الدنيا وكانت مقبلة عليه، واختار آخرته بدعم جهاد إسلامي ضد شيوعية إلحادية.
لم يكن أحد يتصور أو يتوقع أن ذلك الشاب الهادئ المتدين يمكن أن يصبح بعد سنوات زعيم الإرهاب في العالم ورأس الشر الذي سوف تطارده كل دول بصفته المطلوب الأول عالميا، وبدلا من الاستمرار في دعم الأنشطة الخيرية، وكانت أفغانستان في أمس الحاجة إليها بعد تحررها من الاحتلال السوفييتي، انخرط بن لادن بداية في صراع قوى المجاهدين على السلطة بدعم طرف على آخر، ثم انساق خلف فكرة الجهادية المسلحة، وأن الجهاد لم ينته بزوال الاحتلال السوفييتي عن بلد مسلم، بل مستمر لتحرير دول إسلامية أخرى من أنظمة تحارب الدين هي وجه آخر للشيوعية السوفييتية ومتحالفة مع الغرب الصليبي، وساهم في ذلك حقيقة الموقف الأمريكي الذي تحول من داعم للجهاد والمجاهدين الأفغان ومشجع للشباب العربي للانضمام إليه، حتى ظهر مصطلح العرب الأفغان، لدق جرس التحذير منهم ومحاربتهم ومحاولة إنهاء دورهم بعد أن استنفد الغرض منهم، بل وصفهم بأنهم يمثلون حالة عنف خطرة على بلدانها وشعوبها، وهو ما ساهم بكل أسف بدلا من استثمار طاقاتهم إيجابيا، في دفعهم للوقوع في براثن دعاة العنف والقتل وسفك الدماء باسم الجهاد.
كان يمكن لأسامة بن لادن بعد تحرير أفغانستان وعودتها لهويتها الإسلامية أن يعيد ترتيب نشاطه ويوظف تدينه في تنظيم عمل خيري يكتفي فيه بمعالجة آثار احتلال شيوعي طويل دمر كثيرا من مقومات البلد، وأن يوظف أيضا دوره الجهادي في جمع كلمة المجاهدين بعد أن تحولوا لطلاب سلطة وتقاتلوا عليها دون أن ينخرط في نزاعاتهم، وكان بإمكانه أن يكون حذرا ممن استغل توجهه الديني وثراءه وزين له الانحراف نحو التشدد والعنف وأقنعه بأن الجهاد لا يتوقف بتحرير أفغانستان حتى كوَّن منظمة "القاعدة" لتصبح ذراع الجهاد المسلح في العالم، ومن هنا بدأ سقوط بن لادن وخصوصا حينما انساق خلف قوى تؤمن بالعنف نهجا للدعوة والجهاد.
صعود نجم أسامة بن لادن ومن ثم سقوطه قتلا ورمي جثته في أعماق البحر، درس لكل من يخالف المبادئ السوية وينجرف خلف أفكار العنف غير المبرر ويقع تحت تأثير فكر آخر، لقد خسر بن لادن دنياه وحياته وما قدمه في بدايتها من إيجابيات جهادية، وربما ـــ والله أعلم ـــ خسر أيضا آخرته مصداقا لقوله تعالى: "ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق" متوعدا من يفعل ذلك بأنه سوف يلقى أثاما.