إيران «الجمهورية الإسلامية».. سياسات براجماتية وانسداد تاريخي
"الانسداد التاريخي" حالة لازمت مسيرة النظام في الجمهورية الإسلامية، منذ بداية تأسيسه حتى يومنا هذا. وكانت سياسة النظام قد ركزت على تجنب المواجهة بين القوى المتنافرة، على تصدير الأزمة للخارج، وخلق معارك "مقدسة"، تؤجج فيها المشاعر القومية والدينية والمذهبية، وتُمكن صانع القرار، من تحقيق جملة من الأهداف الرئيسة في آن واحد. كان المنجز الأول الذي حققته هذه السياسة، هو التخلص بهدوء من الرموز المعارضة، التي شاركت في الحكومة غداة الإطاحة بالشاه: بني صدر، بازرقان، سنجابي، قطب زاده.. باعتبار أن هذه العناصر ستشكل لاحقا تحديا حقيقيا لمشروعية النظام السياسي الجديد.
أما المنجز الثاني، فيتمثل في التخلص من الرموز الدينية، التي يقبل بها قطاع واسع من الجمهور كمرجعيات دينية يلجأ لها، للإفتاء في أمور الدين والدنيا. وكان قسم كبير من هؤلاء قد اعتبروا ولاية الفقيه، أمرا مبتدعا، من قبل الإمام الخميني لتمكينه من الاستئثار بالسلطة. وانتهى معظمهم إما بالسجن، أو العزل أو فرض الإقامة الجبرية، وتوفي معظمهم في ظروف صعبة. واعتكف آخرون، ممتنعين عن المشاركة في الحياة العامة، وبقي آخرون يتحينون فرصة الظهور مرة أخرى.
إضافة إلى ذلك، كانت القوى السياسية المدنية، كحزب توده، وحركة تحرير إيران ومجاهدي خلق، والجبهة الوطنية الإيرانية، في وضع لا تحسد عليه، في ظل اتساع الصراع مع الخارج، وإعلان حالة الطوارئ. لقد كُمّمت أفواه القوى، ومنعت من الإفصاح عن برامجها السياسية، تحت ذريعة وجود مخاطر كبرى، تستدعي التفاف الجميع من أجل التصدي لها. وتعرضت قيادات تلك القوى للتصفية الجسدية والسجون، أو القبول بالعيش مرة أخرى، بالمنافي، كما هو الحال في عهد الشاه.
ومن جهة أخرى، كان لسياسة تصدير الأزمة، دور كبير، في تحشيد الجمهور خلف النظام الجديد. وخلال المواجهة، لم يكن هناك مجال، أو متسع من الوقت للمطالبة بالحقوق الأساسية، من صحة وتعليم وكهرباء وتأمين سكن، أو فسحة للحديث عن التنمية، وإعادة بناء هياكل الدولة، بما يلبي الحاجات الأساسية للناس العاديين. فقد كان كل شيء مكرسا للحرب المقدسة ضد الأعداء.
ومن خلال هذه السياسية أيضا، تم تفكيك هياكل الدولة التي كانت قائمة إبان حكم الشاه، بما في ذلك مؤسسة الجيش وأجهزة الأمن والمخابرات، وإعادة تشكيلها من أعوان النظام، والمؤيدين لسياساته. كما أسهمت تلك السياسة في صياغة عقل جمعي، وبشكل خاص في أوساط الطبقات الدنيا، بما يتسق مع رؤية المؤسسة الدينية التقليدية. وكانت الصراعات والحروب مع الخارج، موجهة للداخل، أكثر مما هي موجهة لخارج الحدود، وهي وجه آخر، للصراعات التي تغلي الآن في إيران.
لم يذهب أية الله الخميني بعيدا حين وصف شعار "الموت لأمريكا" في أحد خطبه بأنه أقوى من أسلحة الدمار الشامل، فهذا الشعار الذي وحد حناجر الإيرانيين، هو الذي مكّن النظام من إحكام قبضته السياسية، وتنفيذ مشاريعه في إقصاء المعارضة، وتأمين استمرارية النظام. بمعنى آخر، كانت الشعارات العقائدية والثورية ملحقا، وفي خدمة سياسات براجماتية.
في هذا المضمار، لن تكون مهمتنا شاقة للتدليل على ذلك، فالحوادث كثيرة ومتعددة، وتصدم المراقب للشؤون الإيرانية، حيثما اتجه. بل إن هذا المنحى، صاحب الإمام الخميني في منفاه. لم تمنعه شعارات الثورة، التي حرض عليها، وانتشرت كالنار في الهشيم بالمدن الإيرانية الكبرى، منددة بالشيطان الأكبر، من التنسيق مع الأمريكيين، لاستلام السلطة، بعد رحيل الشاه. ووثائق اللقاءات التي تمت بينه وممثليه وبين الأمريكيين أصبحت متوافرة لمن له سمع أو بصر. كما أن التنسيق بين الرئيس الأمريكي الجمهوري، المنتخب في بداية الثمانينيات، ريجان وبين الإيرانيين، بوساطة جزائرية، لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين، بعد إعلان الفوز وليس قبله، لتفويت الفرصة على إمكانية نجاح الديمقراطي، الرئيس كارتر، هي الأخرى متوفرة. وفي الحالتين كان الأمر فاضحا.
ليس ذلك فحسب، بل إن الإيرانيين نسقوا مع الأمريكيين أثناء الحرب العراقية - الإيرانية. وكان الأمريكيون قد انتهجوا سياسة إطالة أمد الحرب بين الطرفين المتحاربين، دون تمكين أي منهما من تحقيق نصر حاسم. وقد عملت تلك السياسة على ترجيح كِفة الطرف الأضعف في الجبهة، حتى إذا اتضح رجحان كفته، عادت لمعاونة الطرف الآخر. وانطلاقا من هذه السياسة، نسق الإيرانيون مع الأمريكيين، لضمان مواصلة الحرب، رغم صدور قرارات عديدة من مجلس الأمن، بعد أسابيع قليلة من اندلاعها تطالب بوقف إطلاق النار.
في مراحل لاحقة، كشفت فضيحة إيران جيت، حيث تسلمت إيران ما ينوف قيمته على خمسة مليارات دولار من الأسلحة الأمريكية، بوساطة إسرائيلية. بطل تلك الصفقة، الضابط الأمريكي، أوليفر نورث المعروف بتوجهاته اليمينية، وتعصبه القومي. واعتبرت تلك الصفقة فضيحة كبرى، وجرت محاكمات علنية، نقلتها شاشات التلفاز وأجهزة الإعلام، لكن ليس في إيران، بل في الولايات المتحدة. وحكم على المتهمين بالسجن وبالغرامات المالية، وأعلن انتحار أحد مستشاري الرئيس ريجان، بسبب هذه الفضيحة.
أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، أكدت تحالفات النظام الإيراني، أن سياساته كانت براجماتية بامتياز. فالنظام كان في حرب مع "نظام علماني بعثي في بغداد"، وحليف استراتيجي ﻠ "نظام علماني بعثي آخر في دمشق". وكان أيضا ضد الشيوعية، لكن معظم مستشاريه ومخططيه العسكريين هم من كوريا الشمالية، الدولة الأكثر تشددا وعقائدية في المعسكر الشيوعي. وهو أيضا مع المطالبة بكشف الحقائق، عن اختفاء مؤسس حركة أمل، موسى الصدر، الذي قام بزيارة إلى طرابلس الغرب، وانتهى أثره منذ تلك الزيارة، لكن النظام الليبي، ظل حليفا قويا لطهران أثناء حربها مع العراق. والحال ذاته، ينطبق على العلاقة مع الجزائر، التي تخوض مواجهة ضارية مع المتشددين من الإسلاميين.
لكن استمرار الحال من المحال، فقد اختمرت الصراعات، التي تنتظر فرصتها، وحان موعد انفلات المارد من عقاله. صراعات مركبة: بين الترييف والتمدين، وبين بقايا إقطاع وبازار يتجه بقوة إلى عالم التجارة، وصراع أجيال، وصراع بين مراكز القوى، وبين ماضوية وعصرنة، وخلافات حادة حول الانكفاء والتشرنق، وبين الانفتاح ومعايشة روح العصر.
وإذاً فالأزمة في حقيقتها تعبير عن اختلال في موازين القوة. إنها أزمة صراع بين البنيات القديمة وبين العصرنة، بين الجمود والحداثة، بين العقل المحافظ، وبين نخب تؤمن أن قانون الحياة هو التطور. وصراع أيضا بين الحكم المطلق وبين حق الناس في تقرير مصائرهم.
والصراع هذا في طبيعته أزلي، أدت نتائجه إلى انتقال حاسم في شكل النظم السياسية التي سادت أوروبا القرون الوسطى، وانتهى بها إلى ما هي عليه الآن. وكما كانت الصراعات الاجتماعية دائما تتلفع بتشكيلات اجتماعية وأيديولوجية، تمثل السياج الذي يحافظ على شبكة العلاقات القديمة، ويحميها من السقوط، فإنها في الأزمة الإيرانية، تأخذ شكل صراع بين مؤسسة كهنوتية، قذف بها من مجاهل التاريخ، تحاول بانتهاج هيمنة "الولي الفقيه"، أن تحكم قبضتها على الأنشطة الاجتماعية كافة، ولتسهم، من خلال الفرمانات التي تسُنّها، وأيضا من خلال أجهزة قمعها، في الحفاظ على التشكيلات البطركية القديمة، ولتستمر الماكنة بالحوصان دون تغيير، وبين قوى اجتماعية حية، تسعى للخروج إلى هذا العصر، والتماهي مع حركته وتطوره.
وكان الصراع في وجهه الآخر، تعبيرا عن اختلاف في الموقف من تسييس الدين. فكثير من الإصلاحيين الإيرانيين، يشاركهم في ذلك شرائح واسعة من المفكرين يرون أن الدين الحنيف لم يترك نظرية واضحة التفاصيل في الحكم السياسي. لقد بشر الإسلام بمبادئ تربوية ملهمة للسلوك الإنساني، وترك للناس أن يقرروا في شؤونهم الخاصة، بما في ذلك نظمهم التاريخية العقلية، بما يتسق مع مبادئه العظيمة. وعلى هذا الأساس، ذهب كثير من العلماء إلى أن الأخذ بالنظام السياسي والقانوني للدولة الحديثة لا يتفق مع الإسلام فحسب، لكنه يحقق المثل العليا التي نادى بها في العدالة الاجتماعية، وتحقيق الحرية والمساواة.
حتمت الظروف التاريخية، التي مرت بها إيران قبل سقوط الشاه، التفاف مختلف مكونات المجتمع الإيراني، حول النظام الجديد. وكانت مؤشرات تهاوي تحالف القوى المتنافرة، قد بدت جلية منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية. لكن النظام تمكن من تأجيل المواجهة مع المجتمع الإيراني، بآليات تصدير الثورة، أو الأزمة. لكن المجتمع الإيراني، شأنه في ذلك شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى، كان قد تغير. ومع تغيره، تغيرت خرائط وموازين. وكان تراكم التطور، والتغيرات التي تجري في داخل إيران ومن حولها، قد أفرزت حقائق ومصالح ونخب جديدة، بقيت كامنة طيلة العقدين المنصرمين، منتظرة فرصتها التاريخية، مخترقة مؤسسات النظام، وروافده، مستثمرة لحظة توتر الأزمة، وعدم قدرة النظام على احتوائها، كما درج عليه في السابق، لتبدأ الانقضاض على معاقله.
إحدى الحقائق التي تسببت في الأزمة، هي عدم قدرة النظام على تلبية الحاجات الأساسية لمواطنيه. فإيران التي كان تعداد سكانها، غداة الثورة لا يتجاوز اﻠـ 40 مليون نسمة، تخطى تعداد السكان الآن اﻠـ 70 مليون نسمة. وكانت سياسة تصدير الأزمة، ودعم الحركات السياسية الموالية لإيران في الخارج، والمليشيات العراقية الموالية لإيران، على حساب وحدة العراق واستقلاله، قد حصدت جزءا كبيرا من حصة الإيرانيين. فقد تكلفت الحرب العراقية الإيرانية، المليارات، التي من المفترض أن تصبح رصيدا في خدمة هدف التنمية، وتوفير المصحات والمستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وإيجاد وظائف للعاطلين عن العمل. لكن ذلك لم يكن متسقا مع سياسة النظام في تصدير أزماته.
وجاء الحصار الدولي ليضاعف من قتامة الوضع ويزيد من أزمة النظام الاقتصادية. كما أدت النزعة العسكرية، والأطماع الإقليمية لإيران لضخ العشرات من مليارات الدولارات؛ تعزيزا للترسانة العسكرية، فضلا عن المضاعفات السلبية لمشاريع التكنولوجيا النووية، ومواقف القوى الكبرى منها، وفي المقدمة الولايات المتحدة، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدولية.
كانت جموع العاطلين تزحف نحو المدن، على أمل أن تجد فيها، ما يسد رمقها. ولم تكن المدن الإيرانية الكبرى: في وضع يسمح لها بتقديم أي عون، فقد ناءت هي الأخرى بأثقالها، من جوع وفساد وإهمال لبنياتها التحتية. وقد وجدت هذه المدن نفسها محاصرة بأحزمة من بيوت الصفيح، بما يستتبع ذلك من ظواهر سلبية، أبسطها تصاعد معدلات الجريمة، وانتشار ظاهرة المخدرات، وتزايد أعداد اللصوص، وانهيار شامل غير مسبوق في منظومة القيم الاجتماعية.
لقد انتقل الصراع التاريخي، بين الريف والمدينة، بين بقايا الإقطاع والتشكيلات التجارية إلى القلب من المدن الكبرى. وحين حطت جموع الفقراء والمعدمين رحالها في المدن، نقلت معها تكويناتها الاجتماعية الأولية وثقافاتها اللاجمة لبناء الدولة الحديثة. وفي واقع كهذا، تفشت ظاهرة المحسوبية، والعصبيات الفئوية والمذهبية. ومع هيمنة العلاقات البطركية على السلطة، وانحيازها الواضح ضد التحديث، والترييف المتسارع للمدن الرئيسة، تضاعفت الأزمة، وتفككت الجبهة الموالية للنظام، ليخرج من رحمها عناصر جديدة، من حيث ارتباطها بقيم التغيير ومنطلقاته.
لقد انقسمت الطبقات الاجتماعية المتنفذة في السلطة إلى شريحتين رئيستين: شريحة بقيت على ولائها "للولي الفقيه"، مستمدة قوتها الاقتصادية وثرواتها من حق الإمام. وشريحة أخرى، نمت في ظل النظام، لكنها استغلت وجودها قريبا من قمة هرم السلطة، لتؤسس علاقات تجارية دولية واسعة، خارج إيران. رأت الأولى في نفسها وريثا شرعيا، للثقافة الدينية التقليدية، وأقامت تحالفاتها بقوة في الأرياف، حيث التخلف والشعوذة والعداء للعلم والولاء لرأس الجماعة، بينما ركزت الشريحة الجديدة على التحديث والتمدين، وأقامت علاقتها مع النخب الاجتماعية المتطلعة للتغيير. وكان الصراع بين هاتين الشريحتين، وجها آخر للصراع بين التمدين والترييف، المشتعل في القلب من مدن إيران الكبرى، وهو صراع محسوم في النهاية، بحكم التطور التاريخي، لصالح قوى المستقبل.
لم يكن تزوير الانتخابات وحده الذي أدى للانتفاضة الشعبية، بل كان القشة التي قصمت ظهر الجمل، فقد ضاق الإيرانيون بوعود رجال السياسة، وفقدوا الأمل بتحسن أوضاعهم المعيشية. وقد أدت أوضاعهم المزرية، إلى تآكل شعبية النظام، فخرجوا إلى الشارع معبرين عن غضبهم، واحتجاجهم على الفقر والبطالة، وأوهام الحكم العادل. إنها إذاً، وجه لأزمات تتداخل فيها صراعات عدة: صراع بين الترييف والتمدين، وقد تناولناه بشكل مختصر، وصراع مصالح، وصراع أجيال، وصراع محافظة وعصرنة، وهي صراعات جديرة بأن نقف عندها في محطات مقبلة.