لا بد من انعزال تكتيكي

ليس من إنسان يستطيع أن يفتق فكره الشخصي ما لم يلون حياته بالاعتكاف من حين لآخر. وإذا كانت المحادثة تثري الفهم،، فإن الاعتكاف هو مدرسة العبقرية، فالمتتبع لسير حياة المفكرين والقادة الروحيين والمبدعين يجد أن أغلبيتهم ينتحون إلى قضاء شطر كبير من وقتهم في خلوة، كما يذهب المؤرخ البريطاني توينبي إلى أن العزلة والاعتكاف شكل قانون نفسي لاكتشاف الحقائق عند الأنبياء والمصلحين.
هكذا كان ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ في ابتداء أمره يتبتل في غار حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة، وكذلك انسحب عيسى ـــ عليه الصلاة السلام ـــ إلى الخلاء ليصوم 40 يوما، ولم يكن موسى ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ ليتمكن من مواجهة قوة فرعون لولا تلك الرحلة إلى صحراء سيناء.

لم الاعتكاف؟؟
للالتفات للداخل، لمراجعة الذات، فالإنسان يتوجه إلى الخارج دوما، أما الانعكاف على الذات داخليا لاكتشافها فنادر، وهذا ما جعل العالم النفسي بلزاك يؤكد أنه: كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وفيما يتعرض له من متاعب نفسية وجدت أن معظم شقاء الناس راجع إلى عجزهم عن الاعتكاف مع الذات.
بداخلنا أصوات عديدة متضاربة المطالب تتجاذبها الهموم والأحلام، والآلام والآمال بين المبادئ والظروف، كيف لنا أن نساعدها دون أن ننصت لها بصدق؟ كيف لي أن أستفتي قلبي وأشرب من نبع صدقه دون أن أتقن مهارة الإصغاء الداخلي؟
ثمة شوق خفي لا يمكن أن نسمع صوته إذا التصقنا بكلام الناس وأفكارهم الدنيوية حتى لو كانوا أهلنا المقربين، والانعزال أحيانا عن ضجيج العالم وانشغالاته يجعلنا قادرين على البدء رويدا رويدا باكتشاف ذواتنا والدخول أكثر فأكثر في حقيقة نقائصها وعجزها، والتعرف على دوافعها الكامنة التي كانت ولا تزال وراء تصرفاتها اليومية وقراراتها الصائبة والخاطئة، ولنا في السلف خير قدوة حيث كان ابن تيمية يخرج للبراري يضع جبهته على التراب ساجدا متضرعا «اللهم يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني».
إذا رغبنا أن نكون من المؤثرين المفعلين لمن حولنا فلا بد لروحنا من خلوة وجلوة، ولا بد من انعزال تكتيكي وانقطاع مؤقت موجه، لأن قدرة المرء على التوحد والتواصل الناضج مع دوافع الذات تعتبر مصدرا عظيم القيمة له عندما ينوي القيام بإعادة تقييم جوهرية لمغزى حياته، وكم هو منعش للنفس أن ترحل عن الضجيج من حين لآخر لترتمي ساجدة عند خالقها مستشعرة عجزها وذلها، متأملة في عظمتها وضعفها، غاسلة همومها بدعائها ودموعها، فعندما نبتعد عن ذواتنا الحقيقية لمسافات بعيدة جدا تدفعنا فيها الدنيا دفعا فنسقط مرضى بمشاغلها مرهقين بملذاتها، حينها يصبح الاعتكاف عظيما وعذبا لأقصى حد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي