الموقف الأمريكي يتطور تدريجيا باتجاه دعم التغيير في سورية
لم تكن الولايات المتحدة على استعداد للتعامل مع تسونامي الربيع العربي الذي بدأ بحالة من التونسة تمر من بلد إلى آخر في وقت قياسيّ، فالمفاجأة كانت كبيرة وواشنطن ما زالت تمر بمرحلة من عدم التيقن حيال ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في سورية، خاصة أن موقفها تجاه دمشق يجب أن يأخذ في عين الاعتبار مصالح تل أبيب، وإن كان يتطور تدريجيا، وصولا لمرحلة فرض عقوبات على الرئيس السوري بشار بتهمة انتهاك حقوق الإنسان.
وبالفعل هذا ما دفع رامي مخلوف - رجل الأعمال السوري المقرب من النظام السوري - بأن يستعمل فزّاعة عدم الاستقرار وتأثير ذلك على استقرار إسرائيل، فرامي مخلوف قال إن تغيير النظام في سورية سيفضي إلى عدم استقرار في إسرائيل! يأمل مخلوف أن تدفع إسرائيل بكل ثقلها لمنع واشنطن من ممارسة ضغط على دمشق أو على الأقل أن تغض الطرف إزاء ما يجري من معالجة أمنية دموية ضد المتظاهرين في المدن السورية، خاصة ما يقال عن جرائم إنسانية ومقابر جماعية.
ويفسر البعض أن ما جرى في الجولان المحتل من اشتباك حدودي مع إسرائيل إنما يبعث برسالة واضحة مفاده أن ممارسة ضغط كبير على سورية من شأنه أن يزعزع استقرار إسرائيل. فالنظام السوري يبدو مصمما على أن يدرك الجميع أن هناك ثمنا باهظا لمن يريد أن يعبث بأمن النظام وحتى لو أفضى ذلك لمواجهة إقليمية من أجل بقاء نظام الأسد في دمشق، ولعل الدراسات الأمريكية تؤكد أن نظام الأسد يحاول إرسال إشارات واضحة تقول أمن النظام أو الفوضى، ولعل ما يشير إليه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من احتمالية تقسيم سورية على أساس مذهبي، تأتي نتيجة معلومات أمنية من دوائر القرار السوري.
في العلاقة مع سورية، ساد في واشنطن مدرستان: الأولى تنادي بإحكام العزلة على سورية حتى يغير النظام من سلوكه، وهنا المقصود مواقف سورية في السياسة الخارجية في لبنان والعراق والعلاقة مع إيران وحماس. وقد كانت هذه المدرسة مسيطرة في واشنطن إبان حكم الجمهوريين بقيادة الرئيس بوش؛ لأن السياسة السورية الخارجية كانت تستند إلى تعميق عرى التحالف مع إيران واللاعبين الآخرين بهدف إفشال استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة. والمدرسة الثانية تنادي بالاشتباك من النظام السوري كأفضل وسيلة لتغيير سلوك النظام، وبالفعل بدأ الرئيس أوباما بسياسة الانفتاح على سورية وقام بتعيين سفير أمريكي لدى دمشق لأول مرة منذ عام 2005.
وفي الفترة الأخيرة ساد اعتقاد في واشنطن يفيد بأن الرئيس بشار الأسد هو إصلاحي ويسعى لتطوير بلده وإدخال الإصلاحات الضرورية، غير أنه محاط بنخب وحاشية تمنعه من وضع رؤيته الديمقراطية والليبرالية موضع التنفيذ. غير أن ما يجري في سورية في الأسابيع الماضية خلق وضعا مختلفا، خاصة بعد أن بدأت دمشق معالجتها الأمنية والدموية لمتظاهرين سلميين؛ ما أدى إلى مقتل المئات من الشعب السوري. ونشير هنا إلى أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلة فجوة في المصداقية، ففي وقت تتبجح فيه واشنطن بأنها تدعم الإصلاحات الديمقراطية نجدها تبطئ من حراكها ناحية سورية؛ لأن هدف واشنطن هو دائما الحفاظ على الاستقرار. ولم تنجح محاولات الإدارة الأمريكية السابقة التي كانت ترى أن دعما أمريكا للاستبداد هو من ولّد المواقف المعادية لها وشجع على الإرهاب، وبهذا المعنى حاولت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس دعم وتشجيع عمليات التحول الديمقراطي، غير أن الإدارة الأمريكية سرعان ما تراجعت بعد صعود حركات إسلامية للحكم كما كان الحال مع تنظيم حماس في غزة.
والموقف من سورية لا يختلف عن الحسابات الأمريكية المرتبطة بمصالحها وليس بمبادئها. وما من شك أن هناك ضبابية في مواقف سورية؛ مما دفع بالمسؤولين الأمريكان بالقول إن هناك آمالا معلقة على النظام السوري لإبعاده عن إيران وحلفائها، وبالفعل يمتاز الأسد بطريقة في التعامل تعطي انطباعا بأنه على استعداد للمضي قدما في الإصلاح، غير أنه لا ينفذ ما يقوله، وطريقته في التعامل اللطيف مع الغير دفعت بتركيا لتعميق علاقاتها مع سورية إذ تنظر تركيا لسورية كبلد أساسي في رؤيتها للتكامل الإقليمي. والولايات المتحدة كما هي تركيا انتقدت معالجات الأسد الأمنية للمظاهرات غير أنه لم تسجل هناك أي مطالبات برحيل النظام السوري، ولو طالبت بذلك لاستنتج بشار الأسد بأنه يعيش في مرحلة صعبة جدا، وما زالت الولايات المتحدة لا تنادي برحيل النظام السوري بسبب خوفها من البديل الذي سيأتي في دمشق. وفي واشنطن يقف السناتور جون كيري كأحد أهم المنادين بضرورة أخذ الحيطة والحذر قبل التفكير ببديل للنظام السوري، فبالنسبة لجون كيري فإن هناك خوفا من المرحلة التي تلي بشار الأسد، وكثر الحديث أخيرا عن صعود الحركة الإسلامية.
بشكل عام، يمكن القول إن موقف واشنطن ما زال غير واضح، غير أنه ينضج ببطء نحو إكمال حلقات الاتهام، فالإدارة الأمريكية لا تطالب برحيل النظام، لكنها في الوقت ذاته تدين وتحتج على معالجة دمشق الدموية والأمنية للمظاهرات وتؤكد حق المتظاهرين في التظاهر السلمي، منتظرة بذلك ما يمكن أن تفضي إليه اللعبة وفيما إذا كانت موازين القوى بين النظام والقوى المناوئة له ستتبدل عندها سيكون الموقف من دمشق أكثر وضوحا. غير أن الراهن أن واشنطن تنظر بعيون تل أبيب ومن غير الممكن أن يكون لواشنطن موقف مختلف عما تراه تل أبيب؛ لأن الموقف في سورية له تأثير كبير على التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي.
وبهذا السياق نشير على دراسة أعدها إيهود يعاري ونشرت على موقع معهد واشنطن أخيرا وفيها يقول المؤلف إن إسرائيل تراقب عن كثب العالم العربي وتقوم بذلك بقلق شديد، والنتيجة التي يتوصل لها في المقال هي أن إسرائيل تخشى عواقب التحولات إن أفضت هذه التغيرات التي عصفت في المنطقة إلى حكم ديمقراطي. وهو يرى بأن المرحلة المقبلة ربما تشهد ما أسمها حكم الشارع، بمعنى أن السلطة انتقلت من الحكومات إلى الجماهير المتظاهرة وفيها ينحني القادة للمطالب الشعبية خوفا من ملاقاة نفس مصير بن علي أو حسنى مبارك. وهذا ما يدفع إسرائيل التفكير مليا بخيارات التعامل مع المرحلة المقبلة، على الرغم من أن المظاهرات الشعبية لم تأتِ على ذكر إسرائيل إلا قليلا، حيث انغمست في الأجندات الداخلية لكل قطر عربي على حدة.
وإسرائيل أيضا تعاني حيرة استراتيجية لها علاقة بارتفاع منسوب عدم التيقن الاستراتيجي، ويطرح في إسرائيل أسئلة مشابهة لما يطرح في واشنطن وتتعلق بهوية النظام القادم إن تغير نظام الأسد. فتخشى إسرائيل أن تتحول سورية إلى منطقة نزاع داخلي تنعكس سلبا على الأمن الإسرائيلي، لكنها في الوقت ذاته تفكر باحتمالية أن يفضي التغيير إلى إعادة اصطفافات إقليمية تأخذ سورية بعيدا عن المدار الإيراني وتأثيره على الخيارات السورية في السياسة الخارجية. ويبقى الأمر غير واضح ليس لدى صانع القرار في تل أبيب، لكن في المنطقة كلها عموما؛ لأن أحدا لا يعرف إمكانية نجاح التغيير في سورية، خاصة إذا ما قام النظام برفع التكلفة على المتظاهرين واستمر التواطؤ الغربي مع سياسة النظام السوري الدموية.
وعودة على بدء، نقول إن خيارات أمريكا في سورية هي محدودة، لكنها قد تشهد تغيرا في الأيام القليلة المقبلة، خاصة مع بوادر الحسم في ليبيا، فاستمرار المظاهرات السورية تشكل عبئا وضغطا إضافيا على إدارة الرئيس أوباما في الوقت الراهن، لكن في الوقت ذاته ما زالت واشنطن تفكر في الاشتباك التدريجي مع النظام السوري والعقوبات الاقتصادية، وهو ما يشكل عائقا أمام قدرة واشنطن للعمل والتأثير بشكل مؤقت، وهذا التدرج مرتبط بتطورات الاحتجاج في سورية وفي المنطقة. فبينما تستمر الولايات المتحدة في تقديم دعم مهم للجماعات السياسية الجديدة في الشرق الأوسط، كما هو الحال في كل من مصر وليبيا، فإن الأمر مختلف مع سورية. فالإدارة مقيدة بسبب القيود على المساعدات؛ لأن سورية ما زال ينظر إليها كدولة ترعى منظمات إرهابية وهو الأمر الذي أفضى إلى فرض عقوبات اقتصادية مما لم يؤهل سورية لتلقي مساعدات.
وعلى الرغم من جاذبية سيناريو نجاح الثورة السورية في قلب نظام الحكم ومن ثم الابتعاد عن الأجندات الإيرانية في المنطقة غير أن الخوف هو ألا تتمكن أي جماعة من فرض الحكم والسلطة على سورية؛ مما ينتج تنافسا كبيرا بين جماعات إثنية مختلفة وما يمكن أن يفضي إليه من شبح الانقسامات الداخلية وربما الحرب الأهلية. فأي تغيير يفضي إلى عدم توافق سياسي بين الجامعات السياسية في سورية - وهو أمر مرجح في حال غياب النظام - يعني إخلال بموازين القوى بين الجماعات الإثنية المكونة لسورية وهذا بدورة سيكون عامل زعزعة استقرار في المنطقة قد تستغله بعض التنظيمات المسلحة والتكفيرية،غير أن اللافت للانتباه أن مختلف المكونات السياسية السورية لا تطرح نفسها بشكل قومي أو ديني أو مذهبي، بل تطرح نفسها كقوى وطنية تطالب بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وانتخابات برلمانية ورئاسية
باختصار، ما زال موقف الإدارة يمتاز بالتدرج المتطور مع سياق الأحداث انتظارا لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وهو الموقف نفسه من كل الثورات العربية في بداية الأمر كما شهدنا بشكل واضح في الحالتين التونسية والمصرية، ففي كل مرة كانت الإدارة الأمريكية تتلكأ لعل النظام يسيطر على الوضع وبعد أن تتيقن أمريكا أن النظام راحل لا محالة تظهر كمن ينحاز لموقف الشارع العربي. الحالتان التونسية والمصرية لم يستمرا طويلا ولم تلجأ الأنظمة الحاكمة للعنف، وبالتالي سقطت الأنظمة دون أن تتمكن الولايات المتحدة من التقاط أنفاسها أو التعبير عن موقف استراتيجي غير التردد وتقديم النصائح للأنظمة بضرورة الإصلاح المباشر، لكن في النماذج الأخرى مثل ليبيا وسورية تم عسكرة الانتفاضات الشعبية ولم تسمح هذه الأنظمة للمتظاهرين لخلق زخم كبير يفضي لرحيل الأنظمة. وهذا يعني أن تعقيدات جديدة ظهرت قد تفضي لحرب أهلية تستمر لفترة طويلة، عندها فقط ستلجأ الولايات المتحدة لتحديد موقفها بدلا من المواقف التي تتغير وتتبدل كل يوم حسب التطورات على الميدان. سورية بهذا المعنى لن تكون مختلفة.