الزواج قد يكشف عن أمراضنا النفسية (1 من 2)
> يعيش الإنسان بطبيعته في عوالم متعددة، منها عوالم مخفية ومغمورة في داخل ذات الإنسان، وهناك عوالم ظاهرة ومحسوسة، لكن كل هذه العوالم يتأثر بعضها ببعض، ولا يعيش الإنسان السعادة والاطمئنان إلا بقدر ما عنده من توازن وتناغم بين هذه العوالم. وحياة الإنسان في أسرته وعلاقته بزوجته وأبنائه كلها تتأثر سلبا أو إيجابا بطبيعة وجود الإنسان في هذه العوالم. الكثير من معالم حياة الإنسان كزوجة أو زوج تتحدد تبعا لما هو موجود في هذه العوالم، وبالتالي فإن إعادة تشكيل هذه المعالم جزئيا أو كليا تتطلب إعادة تشكيل ما هو موجود أصلا في العوالم الداخلية للإنسان، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) - سورة الرعد - الآية:11. وأول هذه العوالم التي يتأثر بها الإنسان عالم الروح، وتنبع أهمية هذا العالم من أنه العالم المتصل بنور الله، فهو عالم يحيط بوجود الإنسان من الداخل والخارج، وفي هذا العالم فتحة كونية وجودية يدخل من خلالها النور والفيض والرحمة الإلهية إلى داخل وجود الإنسان، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) - سورة الحجر - الآية: 29، والاتصال بالنور الإلهي يعني الاتصال بالكمال المطلق، ولعله بهذا المعنى نفهم لماذا طلب الله من الملائكة أن يسجدوا لآدم، ففي هذا المخلوق جنبة إلهية جعلته يستحق أن يكون سيدا على المخلوقات كلها وأن يحظى بشرف خلافة الله على هذه الأرض. وجود الإنسان في هذا العالم، عالم الروح، يعتمد على مقدار ما يتلقاه هذا العالم من نور وفيض إلهيين، فعلى الإنسان أن يوسع من وجوده الروحي ليكون مؤهلا لتلقي المزيد من الفيض الإلهي الذي لا ينقص ولا ينقطع، لكن كل إنسان يأخذ منه بمقدار ما يتسع إناؤه الروحي (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) - سورة الأعراف -ـ الآية: 156، فذكر الله والعبادات نعم إلهية تجعل من أرواحنا أكثر اتساعا وأكثر عمقا، وبها نكون أكثر استعدادا وأكثر تقبلا للمزيد من هذا الفيض الإلهي المتصل بشرط أن تزيدنا هذه العبادات طاعة وإخلاصا لله وخشية منه، وكلما امتلأت روح الإنسان بنور ربها تنور وجود هذا الإنسان، وبهذا النور يعيش الإنسان في هذه الحياة بكل تفاصيلها على هدى من ربه. فعالم الروح عند الإنسان يكبر ويتسع أو يصغر وينكمش، ولإرادة الإنسان دور في ذلك. وهناك عالم آخر يعيشه الإنسان وهو عالم النفس، وفي هذا العالم تستقر النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة، وفي النفس أيضا منابع التقوى والخير، وفي هذا العالم أيضا تتزاحم الرغبات والأهواء والنزوات بكل أنواعها، الخيرة والشريرة. وهذا العالم إما يكون لطيفا شفافا لتغلب قوى الخير والفضيلة فيه وعندها لا توجد أسوار أو جدران تفصل عالم النفس عن عالم الروح، وهذا يعني أن عالم النفس يشرق ويتنور بالنور العابر إليه من عالم الروح، وهذا النور الإلهي القادم من عالم الروح إلى عالم النفس طاقة إلهية جبارة لها قدرة على حرق وتدمير كل الأورام والنتوءات التي قد تصاب بها النفس. لكن هناك نفوسا محرومة من وصول هذا النور الإلهي إليها، وذلك لتضخم وتورم هذه النفوس لكثرة ما تحتقنه في داخلها من شر وكراهية وحقد، إنها ببساطة تتورم بمقدار ما يمد الشيطان من وجوده فيها. فالشيطان لا يقدر أن يعيش أو يصل إلى عالم الروح عند الإنسان لأن وصوله إلى هناك يعني الحرق والفناء، فهو لا قدرة له ولا استطاعة عنده على مواجهة نور الله في روح الإنسان حتى ولو كان هذا النور في أدنى أدنى درجاته، فالشيطان يريد أن يستولي على نفس الإنسان، وهو يريد لهذه النفس أن تتورم وتتضخم لتضغط على عالم الروح فيصغر هذا العالم، وبالتالي يقل نصيب هذا الإنسان من النور والفيض النازل عليه والمحيط به، وأمر آخر يعمل عليه الشيطان، وهو أن تكون هناك جدران سميكة وأسوار عالية؛ حتى لا يتسرب هذا النور الإلهي الموجود في عالم الروح إلى عالم النفس، وبمقدار ما يقل من وصول هذا النور الإلهي إلى عالم النفس تزداد هذه النفس ظلمة ووحشة وتكثر فيها الأورام والأمراض النفسية لينعكس كل ذلك على حياة الإنسان ووجوده. نفس الإنسان عالم محايد، فيها الخير وفيها الشر، تصبح شريرة بمقدار ما سمح الإنسان للشيطان من أن يمتد في حضوره إلى داخلها، وتصبح خيرة بمقدار ما يغمرها من نور الله الواصل إليها من عالم الروح. فعندما يجد الإنسان في نفسه قدرا من الأنانية والحقد والكراهية فليعلم أن هذه تمثل في عالمه النفسي نتوءات وأوراما أو خدوشا، وهذه قد تكبر وتتحول إلى أمراض نفسية تسلب منه السعادة والاستقرار، وبالتالي عليه أن يغوص عميقا في داخل نفسه ليعالج هذه الأورام النفسية، وهذا يتطلب منه أن يفتح المزيد من النوافذ والأبواب في الجدران التي تفصل بين نفسه وروحه ليعبر من خلالها المزيد من النور الإلهي إلى عالم النفس فيقضي هذا النور على هذه الأورام والنتوءات، فهذا النور القادم من عالم الروح يقضي على الأورام النفسية بأكثر ما تفعله أشعة الليزر من تدمير للأورام والنتوءات الجسدية بشرط أن يحسن الإنسان استخدام وتوجيه هذا النور الإلهي لتطهير نفسه.
للنفس دور كبير في سعادة الإنسان في حياته، وبالأخص لها دور ملموس في تأسيس أسرة سعيدة ومستقرة بشرط أن نعطي للنفس جزءا من اهتمامنا، معرفة أسرارها وطرق التعامل معها. وهناك نقاط عدة يمكن طرحها ومناقشتها تخص معرفتنا بالأمر النفسي عند الإنسان، وتأتي في مقدمة هذه النقاط تلك التي تكشف لنا بعض أسرار النفس، هذا العالم أو البيت المقام في داخل ذات الإنسان والذي يوفر البيئة الأهم التي تصنع شخصية الإنسان، وهذه النقاط هي:
1- نفس الإنسان محدودة، لكنها قابلة للاتساع: نفس الإنسان محدودة في سعتها، لكن عندها قابلية للامتداد والتوسع من غير أن يكبر حجمها الحقيقي، فالإنسان لا يرتقي ولا يتكامل إلا باتساع نفسه، والاتساع المقصود هنا ليس الكبر وزيادة الحجم، إنما المقصود إزالة الحواجز والجدران التي تفصل بينها وبين الروح، وبما أن الروح ترتبط بالمطلق فإن اتحاد والتحام النفس بالروح يعطيها أمدا غير محدود واتساعا غير متناه. هذا الانفتاح للنفس على الروح يسمح لعبور المزيد من النور الإلهي من الروح إلى النفس، وأثر هذا النور كبير في تغليب جنبة الخير على جنبة الشر في نفس الإنسان، فبذور الخير في نفس الإنسان تحتاج إلى هذا النور الإلهي مثل حاجة النباتات إلى نور الشمس، فكلما دخل المزيد من هذا النور الإلهي تحولت النفس فعلا إلى جنة خضراء وغابات ممتدة من الأشجار، وعندما ينزوي هذا النور ويتلاشى تتحول نفوسنا إلى صحراء قاحلة وموحشة تسكنها الحيوانات المفترسة والحشرات القاتلة. إزالة الحواجز والجدران بين النفس والروح هي ما يجب أن يهتم بها الإنسان، وإذا عرف كيف يزيلها عليه بعد ذلك أن يعمل وأن يجتهد في إزالتها والتخلص منها. ومن الجدران العالية والسميكة التي تمنع عبور النور الإلهي من الروح إلى النفس هو سور الكراهية، فالنفوس التي تعيش الكراهية نفوس تعيش في زنزانات محكمة لا يصلها شيء من هذا النور المبارك. وكلما أوغلت هذه النفوس نفسها في الكراهية حرمت نفسها من هذا النور، وبمقدار ما تحرم نفسها من هذا النور تنفتح هذه النفوس على الشيطان، وقد تتحول في النهاية وبسبب الكراهية إلى مستعمرة للشيطان تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه. وهناك طبعا أسوار أخرى مثل الأنانية والحقد والظلم وأسوار أخرى كثيرة.
2- رعاية الإنسان نفسه: إن النفس عالم خاص بالإنسان، وعليه أن يحميها ويحفظها من أن يصيبها مرض أو علة، فالنفس تمرض كما يمرض الجسد. فالنفس تمرض إما بالرذائل وإما بالأوهام، فالرذائل، وهي الأخلاق السيئة، كلها مظاهر وأعراض للنفس المريضة والمعتلة، والأخلاق الحسنة مؤشر على صحة وسلامة نفس الإنسان. فالأخلاق السيئة يجب أن تفهم على أنها أمراض نفسية، وأن بقاء هذه الأمراض من دون معالجة شر على الإنسان نفسه المصاب بها وشر على المجتمع، وقد تتحول هذه الأمراض إلى أمراض معدية يمرض المجتمع كله بسببها، فالنفاق يبدأ كظاهرة محدودة وعند أشخاص معدودين، لكنه إن لم يعالج قد يتحول إلى ظاهرة عامة. والإنسان في حاجة إلى مناعة نفسية تصد عنه غزو هذه الرذائل والأخلاق السيئة، وخير وسيلة لتقوية مناعة النفس تعزيز انفتاح النفس على الروح من خلال تقوية الاتصال بالله (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) - سورة العنكبوت - الآية: 45. أما المصدر الآخر لمرض النفس هو تسلل الأوهام إليها، فالنفس قد توحي للإنسان بأنه ضعيف أو خائف أو أن حياته مهددة أو خارجة عن سيطرته، وأن الآخرين كلهم أعداء له ويتأمرون عليه، هذه قد تكون أوهاما، لكن تأثيرها في النفس قد يكون قويا، ويتأثر بذلك الإنسان، فالإنسان في حاجة إلى تطهير نفسه من الأوهام والوساوس والتخيلات السلبية، وهذا الأمر في حاجة إلى إيمان الإنسان بنفسه، فإيمان الإنسان الذي يستمد طاقته من الروح التي يؤمن بأنها متصلة بالله، العلم المطلق والقدرة المطلقة، هو القادر على هزيمة هذه الأوهام وتطهير نفس الإنسان منها. فالنفس إذاً تتسع كلما كانت نقية من الرذائل والأخلاق السيئة؛ لأن هذا النقاء يوصلها ويجعلها منفتحة أكثر على الروح حيث النور الإلهي، وتتسع أيضا إذا طهرناها وخلصناها من الأوهام؛ لأن الأوهام إذا ما اعتقد بها الإنسان صار تأثيرها في الإنسان كتأثير الحقائق، وربما أكثر من ذلك، فهذه الأوهام أورام ونتوءات تضيق بها النفس وعندها يكون الإنسان في حاجة إلى أشعة الليزر الإيمانية التي يقتبسها من الروح لقتل وتدمير هذه الأورام، ومن نعم الله على الإنسان أن هذا الليزر الإيماني موجود عند الإنسان باستمرار وما عليه إلا أن يقوي إيمانه ليبحر به إلى حيث الروح وليأخذ منه ما يريد.
الحديث طويل عن النفس وما فيها من أسرار وإمكانات، فهذه النفس عندما تنفتح على الروح تصبح عندها طاقة من الخير غير محدودة، وعندما يحرمها الإنسان من الاتصال بروحه والانفتاح عليها تغزوها الشياطين فتصبح نفسا شيطانية ويصبح الإنسان عبدا ومأمورا لما تمليه عليه هذه الشياطين من شرور، وهي التي استولت على نفسه وخربتها. وللحديث تتمة..