دعوات لإيجاد منتجات إسلامية للتعامل مع القروض المتعثرة
طرح حجم الديوان المتعثرة في البنوك والمصارف السعودية والخليجية، أسئلة عديدة حول أسباب هذا التعثر، ومدى تأثر البنوك والمصارف الإسلامية به في ظل غياب آليات ومنتجات شرعية تعالج موضوع القروض المتعثرة وانتشار ظاهرة قلب الدين بالدين في بعض البنوك والمؤسسات الإسلامية، وعلى صيغ معينة فيها نوع من التحايل والالتفاف، في وقت تمتلك فيه البنوك والمصارف التقليدية آليات عديدة لمواجهة هذا التعثر، في وقت يؤكد فيه عدد كبير من الرؤساء التنفيذيين للبنوك الإسلامية أن فلسفة القروض في البنوك الإسلامية مختلفة عن التقليدية، إلا أنهم ربطوا القروض بالعمليات الإنتاجية، وأن بعض هذه البنوك قسط القرض على دفعات بحسب حاجة المقترض، بينما تعمل بنوك إسلامية أخرى على تقديم قروضها من خلال الجمعيات التعاونية والأهلية لضمان أمور عدة، من أهمها وجود مشروع إنتاجي تشرف عليه هيئة محددة وضمان في تسديد الالتزامات، حيث تدخل هذه الجمعيات كطرف ضامن ومراقب، وهذا الأمر معمول به في العديد من الدول العربية والإسلامية.
ونظرا لأن الإقراض ومشكلة التعثر جزء من العملية البنكية فقد كلف أخيرا العلماء والمشايخ وخبراء الاقتصاد الإسلامي الأكاديمية العالمية للبحوث الشرعية في المالية الإسلامية بإنشاء مركز لدراسات وتصميم المنتجات المالية الإسلامية وبإشراف المجمع الفقهي الدولي، بهدف إيجاد منتجات إسلامية تستطيع التعامل مع القروض المتعثرة، حيث أكد محمد أكرم لال الدين المدير التنفيذي للأكاديمية أن ثمة حاجة ماسة إلى هذه المنتجات، مؤكدا أن غالبية المعاملات المالية في البنوك الإسلامية مبنية على الديون. من جهتها تستطلع ''الاقتصادية'' رأي خبراء المصرفية الإسلامية للإجابة حول مدى تأثر المصرفية الإسلامية بالقروض المتعثرة وما الآليات التي يمكن استحداثها لمعالجة تعثر مثل هذه القروض؟
أكد الدكتور محمد السحيباني الخبير في المصرفية الإسلامية لـ''الاقتصادية''، أن البنوك الإسلامية تواجه مثل غيرها من البنوك مشكلة تعثر الديون، لكن المفترض أن تكون المشكلة أقل حدة في البنوك الإسلامية بسبب طبيعة التمويل بالمرابحة وأمثاله من صيغ التمويل الشرعية التي تولد ديوناً للبنوك على العملاء؛ فهامش الربح ثابت وليس متغيرا حسب مؤشر معين، ما يقلل من احتمالات الإفلاس مع تحسن الظروف الاقتصادية. كما أن حجم الدين ثابت ولا يمكن زيادته في حال تعرض المدين لظروف قد تؤدي إلى تراخيه في السداد، وهو ما يقلل من احتمال تعرض العميل للإفلاس مقارنة بالنظام الذي يسمح بتمديد فترة الدين مقابل زيادة حجم الدين والفوائد. وأخيراً، توجد قيود على قدرة البنك على بيع ديون عملائه على طرف ثالث، ومن ثم تستمر العلاقة التعاقدية بين البنك والعميل لحين انتهاء العميل من دفع آخر قسط. وهذه الخصائص الثلاث مجتمعة تولد حافزا أقوى لدى البنك الإسلامي لتوقي مخاطر إفلاس العميل من خلال اتخاذ الاحتياطيات اللازمة كافة التي تقلل من احتمال تعرض العميل للتعثر. والمتوقع بناء عليه، أن تكون البنوك الإسلامية أقل عرضة للأزمة في حال ارتفاع معدل الديون المتعثرة، بافتراض أنها تمارس الصيغ الإسلامية حسب الضوابط الشرعية. أما إذا كانت تطبق الحيل الشرعية التي تجعل منتجاتها متطابقة شكلا مع الضوابط الشرعية، وموضوعا مع المنتجات التقليدية، فلن يكون للضوابط الشرعية في هذه الحالة أي حافز على تغيير سلوكها، ومن ثم لن يختلف حجم تأثرها بمثل هذه الأزمة عن بقية البنوك.
وحول وجود منتجات لدى البنوك الإسلامية تعالج هذا النمط من الديون قال السحيباني: إن طبيعة الديون التي تنشأ في البنوك الإسلامية مختلفة، فهي تربط بين التمويل والنشاط الحقيقي من خلال البيع ونحوه، وهامش المرابحة فيها ثابت، والدين ثابت، ولا يمكن بيعه. وهذه هي الفوارق الرئيسة بين الدين الذي ينشأ في البنك الإسلامي وغيره. وله كما ذكرت أثر في الوقاية من مشكلة التعثر في الدين بسبب أثره الإيجابي في حوافز البنوك الإسلامية الذي يدفعها للتدقيق أكثر في الجدارة الائتمانية لعملائها، ما يقلل في المتوسط من احتمال تعرضهم للإفلاس.
وحول ما يقال: إن 75 في المائة من البنوك الإسلامية تتعامل بالديون، وهل من مؤشرات حول حجم التعثر في البنوك الإسلامية في السعودية، قال السحيباني: تعد الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية (سمة) أول شركة مرخص لها في مجال المعلومات الائتمانية في المملكة سواءً للأفراد أو الشركات، وهي ونظيراتها في الدول الأخرى من المصادر الرئيسة للحصول على المعلومات عن الديون المتعثرة في البنوك. والمعلومات المتاحة حالياً هي من واقع الإحصاءات التي تنشرها ''سمة''، التي تبين حجم الديون المتعثرة ونسبتها إلى إجمالي الديون، وتصنيف الديون المتعثرة حسب نوعية المدين والدائن. ولا يوجد ـــ حسب علمي ـــ تقرير مفصل عن ديون البنوك الإسلامية مقابل غيرها أو تلك المرتبطة بالمنتجات المالية الإسلامية مقابل غيرها، مع أنها من حيث المبدأ يمكن أن تفرد وتقارن بغيرها.
وبخصوص التعامل بـ''قلب الدين والمرابحة المدورة'' وأثره في عمل المصارف الإسلامية أوضح السحيباني أن موافقة الهيئات الشرعية لبعض البنوك الإسلامية على معاملات تسمح بقلب الدين ونحوها تأثير سلبيا في حوافز البنوك الإسلامية لتوقي مخاطر إفلاس العملاء، ما يجعلها أكثر عرضة لمشكلة تعثر الديون. ومثل هذه القرارات تجعل الضوابط الشرعية ـــ مع الأسف ـــ مجرد قيود شكلية. ولو تم أخذ البعد المقاصدي في قرارات الهيئات الشرعية لرأينا قرارات أكثر اقتراباً من مقاصد ومعاني العقود الشرعية، التي لها آثار إيجابية في حوافز أطراف عقد التمويل، ومن ثم احتمالات الإفلاس والتعثر في السداد، ووقاية الاقتصاد الكلي من الأزمات التي تنشأ بسبب ذلك.
وفيما يتعلق بعملية بيع الديون والمتاجرة فيها، وتعارض ذلك مع المقاصد الشرعية للتمويل الإسلامي أكد السحيباني أن بيع الديون والمتاجرة فيها يؤثر سلبيا في حوافز البنوك على توقي المخاطر الائتمانية للعملاء، ويؤدي ذلك إلى التوسع المفرط في الديون في الاقتصاد، ويسهم مع مرور الوقت في انفصال التمويل (الوسيلة) عن الأنشطة الاقتصادية المولدة للثروة (الغاية)، ما يجعل الاقتصاد أكثر هشاشة أمام الأزمات، ويتعارض ذلك بالتأكيد مع مقاصد الشريعة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي الذي يستلزم أن يكون التمويل تابعا للأنشطة الاقتصادية، الذي يتحقق من خلال غلق الطريق السريع والمختصر للديون (القروض بفائدة)، وفرض قيود على زيادة حجم الديون التي تنشأ بسبب شرعي، وعلى تداولها، لحفز الدائنين والمدينين على تجنب الديون، وألا يقدم الدائن على منحها، إلا إذا كان متأكداً من الجدارة الائتمانية للمتمول، وألا يقدم المتمول على تحملها إلا إذا كان قادراً وراغباً في سدادها.
ويرى الدكتور مجدي غيث الباحث في المصرفية الإسلامية أن المتأخرات أو الديون تعد من أبرز التحديات التي تواجه المصارف الإسلامية؛ لأن الفارق بين البنك الإسلامي والتقليدي يستند إلى أن الإسلامي يعتمد على المشاركة، وأن المشاركة في الربح والخسارة تنطوي على مخاطرة عالية؛ لأن العائد غير مضمون، مؤكدا أن الصيغ الثانوية مخاطرها أقل لعدم اعتمادها على مبدأ المشاركة على الدين ومعدل العائد الموجب والمحدد مسبقا، وأن الصيرفة الإسلامية تعتمد بشكل كبير على الصيغ الثانوية وبخاصة المرابحة، والتوريق، والإجارة المنتهية بالتمليك؛ لأنها لا ترغب في المخاطرة ولا الدخول في نفق المشاركة، الأمر الذي أدى إلى أن يصبح البنك الإسلامي بنكا للأغنياء، فالديون تحتاج إلى رهون، والرهون في أيدي الأغنياء.
أما الباحث في المصرفية الإسلامية الدكتور حامد ميرة، فقد أكد لـ ''الاقتصادية'' أن انتشار قلب الدين في المصارف الإسلامية يقضي على أهم الفروق بينها وبين المصرفية التقليدية، التي تشتمل على تأجيل سداد الدين الحال عن المدين مقابل زيادة، وهو ربا الجاهلية الأولى الوارد في النصوص الشرعية.
وأضاف ميرة أن قلب الَّدين يمكن تلخيصه بأنه تأجيل الدَّينِ الذي حلَّ أجلُه عن المدينِ مقابلَ زيادةٍ في مقدارِه يَتوَصَّلُ الدَّائنُ إليها من خلال معاملةٍ غيرِ مقصودَةٍ لذاتها يتحيَّلُ بها لبلوغ ذلك الغرض، كأن يحل على المدين دينٌ بـ100 ألف ريال، وليس لديه ما يسد به هذا الدين، فيقوم الدائن (بنك أو غيره) بإنشاء عملية تورق يبيع فيها على العميل سلعة بـ100 ألف حالة يسددها العميل 120 ألفا مقسطة إلى سنة، ويسدد البنك بحصيلة التورق (المائة ألف) دينه الحال؛ فتكون نتيجة هذه المعاملة تأجيل سداد الدين الحال (المائة ألف) بـ120 ألفا إلى سنة.
وقال ميرة: إن جمعٌ من العلماء من المتقَدِّمين والمتأخِّرين قد نص على تحريمِ قلب الدين، لكونه حيلةً ظاهرةً وذريعةً إلى الربا، مضيفا أن قرار المجمع الفقهي التابع لرابطةِ العالم الإسلامي أكد تحريمَ قلب الدين أو فسخ الدين في الدَّينِ مطلقاً؛ سواءً أكان المدينُ موسراً أم معسراً، كما أكَّد ذلك أيضا مجمع الفقه الإسلامي الدولي بقراره 158 (7/17) الذي جاء فيه: ''يُعَدّ من فسخ الدين بالدين الممنوع شرعاً كل ما يُفضي إلى زيادة الدَّين على المدين مقابل الزيادة في الأجل أو يكون ذريعة إليه، ومن ذلك: فسخ الدين بالدين عن طريق معاملةٍ بين الدائنِ والمدين تنشأ بموجبها مديونية جديدة على المدين من أجل سداد المديونية الأولى كلها أو بعضها، سواء أكان المدين موسراً أم معسراً، وذلك كشراء المدين سلعة من الدائن بثمنٍ مؤجَّلٍ ثم بيعِها بثمنٍ حالٍّ من أجلِ سدادِ الدَّينِ الأَولِ كلِّه أو بعضه''.
وبخصوص حجم الديون المتعثرة في البنوك والمصارف السعودية أكد الخبير المصرفي نواف أبو حجلة لـ ''الاقتصادية'' أن النتائج المالية للمصارف الإسلامية في المملكة للعامين الماضيين أظهرت انخفاض حجم الديون غير العاملة من 11128 مليون ريال عام 2009 إلى 9864 مليون ريال لعام 2010، وبنسبة من إجمالي الديون غير العاملة للمصارف السعودية في حدود 43 في المائة مع الأخذ في الحسبان أن هذه البيانات لا تشمل البنوك التقليدية التي تقدم الخدمات والتمويل المصرفي المتوافق مع الشريعة، ما يرجح ارتفاع هذه النسبة إلى أعلى من ذلك بكثير.
هذا وراوحت نسبة الديون غير العاملة إلى إجمالي الديون في المصارف الإسلامية من 2.2 في المائة إلى 5.8 في المائة للعامين الماضيين، فيما راوحت نسبة تغطية مخصصات الديون غير العاملة من 65 في المائة إلى 108 في المائة لعام 2009 وارتفعت إلى ما بين 85 في المائة و136 في المائة لعام 2010، حيث بلغت المخصصات لعام 2009، 4949 مليون ريال مقارنة بمبلغ 4375 مليون ريال لعام 2010 بنسبة من إجمالي مخصصات القطاع المصرفي السعودي 47 في المائة، 46 في المائة للعامين المذكورين على الترتيب، آخذين أيضا في الحسبان عدم شمول هذه البيانات أرصدة الديون لدى البنوك التقليدية التي تقدم التمويل والخدمات المصرفية الإسلامية.
ولقد نتج عن ارتفاع قيمه الديون غير العاملة تداعيات كبيرة على المصارف السعودية ومن ضمنها المصارف الإسلامية، وفي ضوء ارتفاع مؤشرات الديون غير العاملة، حيث اقتطعت مخصصات الديون غير العاملة ما يعادل 21 مليار ريال من صافي دخل القطاع المصرفي، ما أسهم في تخفيض أرباح هذا القطاع بنسبة 26 في المائة لعام 2010.
كما تعرضت رؤوس أموال المصارف السعودية لضغوط كبيرة بسبب ارتفاع هذه المخصصات، حيث هبط النمو في حقوق المساهمين من 20 في الامئة للسنوات ( 2000- 2008) إلى 8 في المائة كمتوسط للعامين الأخيرين، وانخفض معدل نمو الاحتياطي الإلزامي للبنوك خلال العامين الماضيين نحو 11 في المائة مقارنة بمتوسط بنحو 15 في المائة للعقد الماضي، كما تراجعت توزيعات الأرباح بنسبة 5.4 في المائة للعام الماضي بسبب قيام البنوك بدعم رأس المال.