لا تخف من المراجعة
حين نتابع حوارا في إحدى القنوات التلفزيونية، أو في المنتديات الاقتصادية والثقافية، أو في جلسة عائلية، نلمس ظاهرة مشتركة واضحة متكررة بين تلك المواقف جميعها، وهي إعجاب كل ذي رأي برأيه والتشدد في الدفاع عنه سواء في المحيط الأسري أو الخطاب الديني أو السياسي أو الاجتماعي، حيث يجد جميع المتشددين صعوبة في القبول بالاختلاف، ويرى الواحد منهم ذاته مالكاً وحيدا للحقيقة، فيصنف رأيه في منزلة أعلى من الآخر، ويتحول مسار الحديث إلى منحى الانتصار على الآخر وتحطيم مقولته مع رفض المساس بأي تعديل على الرؤية الذاتية.
ـــ ما الصعوبة في أن نختلف في حواراتنا دون تجريح للآخر؟
ـــ لم يظن كثير من الناس أن الحوار لا يكون إلا من أجل الاتفاق على الأفكار والمواقف؟
ـــ لماذا يعرض البعض عن أي حوار لا يتوقعون الخروج من ورائه بصيغة توحد؟
ـــ لم لا نصغي لاختلاف الآخر ونعتبره فرصة لتوسيع الرؤية و إثراء المفاهيم؟
ـــ ما الذي أوصلنا لتلك الحال من التناطح في مواجهاتنا؟
يبدو أن المشكلة تكمن في غرور نماذجنا العقلية وعلاقة انفعالاتنا بأدمغتنا، فهي علاقة مسيطرة لدى السواد الأعظم، فعندما تسيطر الانفعالات على العقل نبدأ في إعمال تفكيرنا بتأثير من أهوائنا ورغباتنا، فنعمل على تركيز جهودنا في البحث عن آليات الاستدلال التي تثبت صحة قناعاتنا المسبقة.
هنا يتضح مدى ارتقاء مستوى النضج الإنساني لتلك النفس القادرة على الخروج من حصار نماذجها العقلية وغلبة الهوى خشية من الله ورغبة في الوصول إلى الحق "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى".
إن سمة الذات القوية تكمن في مقدرتها على تفكيك مبرمجاتها الفكرية والشعورية واستكشاف تأثير كل منها، وفي امتلاك الشجاعة الإيجابية لإعادة التساؤل عن جدوى كل اعتقاد مترسخ في خريطتها الذهنية، وهل أسلم إلى خير أم شر؟ هل هو محل إسعاد أم شقاء، أي منها ندع وأي نبقي؟
لقد شكلت مراجعة المبرمجات الفكرية والقناعات الموروثة وعدم الخوف من التغيير الفرق الجوهري بين المهتدين والضالين منذ بدء الخليقة، فأبو طالب خشي من الخروج من حصار موروث الأجداد، بينما نزع طفيل الدوسي القطن بشجاعة من أذنيه بعد أن وضعه مدة ـــ جعلته يلقب بذي القطنتين ـــ بناء على برمجة قريش له حين قدم مكة، وتحذيراتهم له من الإصابة بالسحر الذي يفرق بين المرء وأهله، فاستمع لكلام الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ ومنح نفسه فرصة الإصغاء للآخر بموضوعية جعلته يسارع لإعلان إسلامه، وينطلق بقوة لدعوة قومه، وإن قصة هدايته ونجاحه في التخلص من البرمجة مليئة بالدروس التي يحتاج إليها كل فرد ومنظمة تسعى لتقييم خطتها وتفكيك مبرمجاتها، رغبة في حماية مكانتها من التراجع، فقوة أي منهج عمل مستمدة من قدرته على خدمة الأهداف التي صمم من أجلها، وإن جمودنا على النماذج القديمة وتشددنا في الدفاع عنها دون امتلاك المرونة في مراجعة ملاءمتها للمستجدات تضعف من قوة ذلك المنهج في الريادة والاستمرار.